هل سلك لبنان مسار تطبيق شروط صندوق النقد الدوليّ؟
كتب أنطوني الغبيرة لـ”هنا لبنان”:
لبناننا الأخضر تحوّل إلى لبنانهم المُنهار، ولم يكتفوا فقط بسلبه منّا، بل جعلونا نلوم أنفُسنا في كلّ مرّةٍ نشعر بمدى الظلم الذي لَحق بأرضهم التي لم تَعد تُشبهُ وطننا الأخضر. مُشكلتنا هي أعمق من العيش بنفس الأرض مع سالبي وطننا؛ مشكلتنا هي البحث عن هويتنا التي سُرقت منّا، لنصبح أفرادًا يتشاركون حياة واحدة ومصيرًا واحدًا، يتحدّون المجهول ويبحثون عن هويّتهم المسلوبة.
الإنهيار الإقتصادي في لبنان هو نتيجة تراكم إخفاقات للسياسات الإقتصاديّة التي تحكّمت بها السلطة السياسيّة على مدار الثلاثين عامًا الأخيرة. وليس بالغريب عن حكّام لبنان تجييش الرأي العام الإقليميّ – الدولي والسعي للحصول على قروض وتبرّعات بعد كلّ إخفاقٍ إقتصاديّ يقومون به، بهدف إلهاء الناس والتخفيف من حدّة الأزمة من خلال إقناع الشعب بأنّ السلطة تبحث عن حلول.
سبعة عشر اجتماعًا عُقِدَت لصندوق النقد الدولي مع حكومة الرئيس السابق حسّان دياب ولم نحصل على نتيجة. وبعد أكثر من عام على توقيف المفاوضات، ها هي الحكومة اللّبنانيّة اليوم تستأنف الجولة الثامنة عشرة من المفاوضات، مع تعديلٍ صغير وهو تغيّر اللاعبين! فلم تعد نفس الحكومة هي المفاوِضة، الأمر الذي يجعلنا نطرح السؤال عن السبب الذي جعل الأمور تصبح أكثر سهولة، فهل من تنازلات قدّمها الجانب اللّبنانيّ؟ أو تمّ تغيير الشروط من قبل صندوق النقد الدولي؟!
ربّما لن نحصل على إجابة واضحة، غير أنّنا على ثقة بأّنّ صندوق النقد لا يغيّر شروطه ولا يغيّر مبادئه؛ لكننا نستطيع أن نجزم أنّ ما حصل في لبنان خلال فترة توقيف المفاوضات له دلالات أساسيّة لاستكمالها، كونه يترجم الشروط التي على الدول النامية اتّباعها للحصول على قروض من صندوق النقد. فما هي شروط صندوق النقد الدولي لمنح الدول القروض؟
إجراءات برنامج التكيّف الإقتصادي التي يتّبعها صندوق النقد الدولي لمنح القروض للدول النامية هي، تخفيض عجز الموازنة الذي يترافق مع تخفيض الأجور الحقيقيّة، وتخفيض قيمة العملة الوطنيّة مع تحرير الأسعار والتجارة الخارجيّة. هذه الإجراءات المُعتمدة دولياً، كيف يُترجم تطبيقها على الحالة اللّبنانيّة؟
ربّما لم تتم بعد خصخصة القطاع العام بشكلٍ واضح وفعّال رغم إنهيار مؤسسات الدولة الخدماتيّة وذلك لتعزيز السَير بالإجراءات، غير أنّ تخفيض عجز الموازنة بدأ في لبنان من خلال زيادة الضرائب ورفع الدعم عن السلع التي يستهلكها المواطن؛ وكنّا قد شهدنا منذ صيف 2021 غيابًا تامًّا للسلع الغذائيّة المدعومة من الأسواق اللّبنانيّة، ومنذ بضعة أسابيع رُفع الدعم عن الدواء فكان القرار كالصاعقة على الشعب الذي سَئِم من الصدمات غير المتوقّعة التي تضيّق عليه سُبل عيشه وسئِم انتظار تشريع قانون البطاقة التمويليّة التي أُقرّت الأسبوع الماضي؛ هذه البطاقة تأتي ضمن برنامج دعم العائلات الأكثر فقراً التي تترافق مع إجراءات التثبيت الهيكلي لصندوق النقد الدولي التي ينتُج عنها نتائج سلبيّة كالتضخّم الإقتصادي!
بالمقابل لا زيادة حقيقيّة للحدّ الأدنى للأجور بشكل عام؛ فيعاني الموظّفون من ظلمٍ كبيرٍ يصل إلى حدّ عدم قدرتهم الذهاب إلى عملهم بسبب الإرتفاع الجنونيّ لأسعار المحروقات، فرغم زيادة بدل النقل إلى 64000 ليرة لبنانيّة لكن الغلاء الفاحش يُنهك الموظّف ربّ الأسرة يُضعف عزيمته للإستمرار والصمود في ظلّ الأوضاع الإقتصاديّة الحاليّة؛ ومع رفع الدعم وإبقاء الأجور على حالها يأخذ هذان الشرطان – تخفيض العجز وعدم زيادة الأجور- من شروط صندوق النقد حيّزًا كبيرًا من التطبيق من قبل الدولة اللّبنانيّة.
تحرير العملة الوطنيّة من خلال إيجاد سوق حرّة للنقد الأجنبي وتحديداً الدولار الأميركيّ شرطٌ آخر نلاحظ أنّه يطبّق في لبنان، فالعملة الوطنيّة خَفُضت قيمتها حوالي 16 ضعفاً ممّا كانت عليه قبل العام 2019، ناهيك عن الأزمة التي تعاني منها المصارف مع الدولة اللبنانية. وتحرير العملة يرافقه اليوم تحرير للتجارة الخارجيّة، فلم يصدر بعد أي قرار رسميّ بتغيير التعرفة الجمركيّة، لكن الدلائل تشير أنّه مطلع العام القادم قد تُحتسب على دولار يتعدّى 14000 ليرة لبنانيّة، وهذا ما يؤثّر سلباً على الصناعات المحليّة والمؤسسات الخاصة الصغيرة التي سيتعذّر عليها استيراد المواد الأوليّة.
ومعظم هذه التدابير والقرارات بدأت الدولة اللّبنانيّة تطبيقها قبل بدء الجولة الثامنة عشرة من المفاوضات بين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وصندوق النقد الدولي الشهر الماضي.
فهل سبب البدء بتطبيق الشروط مدروس من قِبل الدولة اللّبنانيّة لإثبات جدّيتها للحصول على دعم الصندوق، أم إنّه نتيجة الفوضى والانهيار السياسيّ الذي يعانيه لبنان في ظلّ غياب إجتماعات مجلس الوزراء وغياب القرار السياسيّ الموحّد؟
بغضّ النظر عن السبب النتيجة واحدة، فمع زيارة وفد من صندوق النقد الدولي ولقاءاته الزعماء في لبنان، نلاحظ مدى جديّة المفاوضات، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الوضع الداخلي السياسي. ولكن مع تطبيق شروط الصندوق في لبنان، كم هي قدرة واستطاعة المواطن التحمّل للنتائج والأعباء التي ستقع على كاهله وهو غير قادر على مواجهة الأزمة في ظلّ غياب الدولة؟ فالسياسات الماليّة الجديدة ستدفع الدولة إلى اعتماد حالة تقشّف أكبر لسدّ العجز. ولكن ماذا لو لم يتمّ الاتفاق بين لبنان والصندوق؟