حكاية شاهدٍ على مغارة
كتب أسعد بشارة لـ “هنا لبنان”:
تصلح قصّة المدير العام لدائرة المناقصات جان العليّة، مع وزراء الطاقة المتعاقبين منذ العام 2008 وإلى اليوم، لروايةٍ عنوانها “الفساد الوقح”، ولو تيسّرت كتابتها بالتفاصيل، لأعطَت نموذجاً عن إحدى الكوارث التي خلّفت خرابًا وفسادًا وإصرارًا على نهب المال العام، دون مراعاة الشّكل والحدّ الأدنى من الأصول القانونية، بما يؤدّي إلى خلاصةٍ مؤكّدة: من تولّوا ملفّ الطّاقة كانوا يمرّرون بأعصابٍ باردةٍ ما لا يمرّ، ومن قبيل الصدف أو الاستثناءات القليلة أن يقف موظّفٌ برتبة مديرٍ عام، ويقول لا لتمرير مناقصات بواخر شركة كرادينيز، وهو أعزل في مواجهة شبه إجماعٍ داخل حكومة المنظومة، وهي حكومات “مرقلي لمرقلك” حسب ما وصفها رئيس الحكومة السابق تمام سلام الذي ترأّس آخر حكومةٍ قبل انتخاب الرئيس ميشال عون.
قصّة العليّة مع بواخر جبران باسيل، بدأت في العام 2011، في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
القصة يمكن اختصارها بالآتي: يتمّ اتّفاقٌ مسبقٌ ومن تحت الطاولة مع شركة تأجير البواخر، وبعد ذلك ترمي وزارة الطاقة إلى دائرة المناقصات ملفًّا كي تبصم عليه، لا يحمل من المناقصة حتى الاسم. هو عرضٌ وحيدٌ لشركةٍ وحيدةٍ، بذرائع واهية، لا يمكن تصنيفه إلّا اتّفاقًا مسبقًا يراد إعطاؤه صفةً قانونية، لا من حيث مبدأ المناقصة ولا التنافس ولا الشفافية ولا الأسعار، وهكذا رفضت إدارة المناقصات العرض الوحيد للشركة الوحيدة بالإجماع، وعلّلت الرفض بالقانون وبالتفصيل. يومها أبلغ العليّة وزير الطاقة السابق سيزار أبي خليل بالرفض وأرسل له قرار إدارة المناقصات، لكن أبي خليل أبلغه رسالة من جبران باسيل تقول: “يتمنّى عليك أن تمشي بالمناقصة لأنّ مصلحة البلد تقتضي ذلك حتى لا تتعطّل ساعات التغذية للكهرباء”.
طبعاً لم يوافق العليّة، وطلب أن توافق الحكومة على الصّفقة دون أن تمرّ بدائرة المناقصات، إذا ما أريد تمريرها، كي لا يتحمّل المسؤولية. لاحقاً شهد شاهدٌ من أهله، في قضية البواخر، إذ أكّد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، التي تعاقدت مع بواخر باسيل، بأنّ حجم العمولات فاق الـ 20 مليون دولار.
في العام 2017 حاول القيّمون على وزارة الطاقة تمرير صفقةٍ بعددٍ أكبر من البواخر، بالطريقة نفسها. عرضٌ وحيدٌ لشركةٍ وحيدةٍ (كرادينيز) يحال إلى دائرة المناقصات، لأخذ التّغطيّة القانونيّة والمحاسبية، في حين أنّ الاتّفاق المسبق مع الشركة كان حصل تحت الطاولة، ويراد تمريره، لكن سيناريو الرفض تكرّر في دائرة المناقصات، والنتيجة لكلّ هذا المسار المدمّر: لا كهرباء، إنفاقٌ بعشرات مليارات الدولارات، تلويث البيئة وضرب الاقتصاد.
كان واضحاً أنّه في سبيل استئجار البواخر بكلفةٍ تتجاوز أسعار البواخر نفسها، أطاح باسيل ووزراؤه بكلّ الخطط الدولية للمساعدة في بناء قطاع الكهرباء وبالتّحديد معامل الإنتاج. يكفي ما كشفه النائب نقولا نحاس عن رفض باسيل الاستعانة بالصندوق الكويتي لتمويل بناء المعامل بحججٍ واهية، وعن الإطاحة بالقانون 129 ورفض اقتراح خبراء الاتّحاد الأوروبي الذين قدّموا خطّةً متكاملةً للقطاع.
بعد كلّ هذه الكارثة المثبتة بالوقائع، لم يتغيّر سلوك باسيل ووزرائه، ما فجّر سجالاً بين وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني والعليّة، حيث عمدت في سياق السجال مع النائب علي حسن خليل إلى قول وقائع غير صحيحة في موضوع القيمة المضافة لمعمل دير عمار.
البستاني حاولت أن تتغطّى بغطاء دائرة المناقصة لتقول أنّ نتيجة مناقصة معمل دير عمار، أعلنت من دائرة المناقصات من دون أن تنصّ على دفع القيمة المضافة ما يعني أنّها يجب أن تدفع من خارجها، وهو ما حدا بالعليّة لتكذيبها، ولدعوة وزراء الطاقة الثلاث إلى مناظرةٍ مباشرةٍ أمام الرأي العام، حول كلّ ملفّات وزارة الطاقة التي كان لدائرة المناقصات رأيٌ فيها سلبًا أم إيجابًا.
المفارقة أنّ باسيل ووزراءه هربوا من المناظرة، متذرّعين بأنّ من يدعوهم لها هو مجرّد موظّف، لكنّهم في الوقت نفسه لم يملكوا الحدّ الأدنى من الوقائع ليردّوا عليه.
باسيل الذي تبادل مع علي حسن خليل الاتّهامات بالسرقة، والتّحدّي بكشف حقائق تلزيم دير عمار، هرب من مناظرةٍ مع مديرٍ عامٍّ لعب دور الشاهد والمبادر في ملفّ البواخر الذي كشفت حلقاتٌ تلفزيونية كاملة عن ارتكاباتٍ موثّقةٍ وشبهات لا تحتاج إلّا قضاءً يُخرج الملفّ من الأدراج. باسيل نفسه يخشى أن يواجه مدير دائرة المناقصات، الذي لم يسمح بأن تمرّ الصّفقة من دائرته، على الرّغم من كلّ التّهويل الذي مورس بحقّه.
كان متوقّعاً لو تجرّأ أمراء الطاقة على مناظرة العليّة، أن تكون المناظرة، تدقيقاً جنائياً في وزارة الطاقة أمام الرأي العام، لتبيان حقيقة ما إذا كانت مغارةً أو وزارة، لكن يبدو أنّ ملفّ البواخر الثقيل، لا يُتيح المجال للمخاطرة ولا للمناورة.
مواضيع مماثلة للكاتب:
تفاؤل وهمي والحرب تتصاعد | لبنان على موعد مع أشهر صعبة | ترامب اللبناني |