انسحاب الحريري… درسٌ في ثقافة الإستقالة؟
كتب طوني عطية لـ “هنا لبنان” :
بعد الهزيمة في “حرب يونيو” 1967، تنحى جمال عبد الناصر عن رئاسة مصر، ليتراجع عنها في اليوم التالي بعد خروج الملايين في مصر والسودان وليبيا وتونس والجزائر ولبنان وسوريا والعراق والأردن، رفضاً لقراره. رغم فداحة الخسارة، التي من المفترض أن ترسله حسب المنطق السياسي الطبيعي إلى نادي الرؤساء أو الزعماء السابقين إذا لم نقل إلى منطق المساءلة والمحاسبة، كرّسته زعيماً مُمَجّداً ومُجَدَّداً على رقابهم وحياتهم ومستقبلهم. فالعاطفة التي نكنّها للزعيم، تحوّله رغم خياراته وقراراته الفاشلة بنتائجها الملموسة على جمهوره ووطنه، إلى رجل ضحية يصبح التمسّك به أكبر، بدل التخلّي عنه والبحث عن قائد آخر تستمرّ الحياة والأمل به ومن دونه.
هذا المرض العاطفي هو حال غالبية شعوب المنطقة التي ولدت عبر تاريخها في كنف الأمبراطوريات وسلاطينها، ففكرة وجود الزعيم الأبدي، والقائد الملهم، والرجل التاريخي، تخلق راحة نفسية وشعورًا بالأمان في مجتمعات، تصحو وتنام على الخوف والنزاعات والصراعات، اعتادت أن تقدّم الروح والدم وفلذات الأكباد والأرزاق والعقول وكل ما تملك، فدية للزعيم، ما يجعل منه في مرّات كثيرة، ضحية لهذا العشق، فلا يستخفّ أحدٌ بمدى تأثير هتاف الشعوب وهذيانها على تكوين “البسيكو- بوليتيك” للزعيم السياسي، فجنون عظمته، يغذّيه الخضوع الجماهيري، فالجنون ليس حكراً على الزعماء بل على الأتباع أيضاً.
أما في فرنسا، عندما قدّم بطلها ورمز انتصارها وتحريرها شارل ديغول استقالته عام 1969، لم تخرج الجماهير الفرنسية المؤيدة له لدفعه للتراجع عن قراره. وفي نيوزيلندا، رئيس وزرائها “جون كي” الذي كان يتمتّع بشعبية واسعة وسمعة طيّبة في بلاده، كان باستطاعته البقاء في السلطة مستنداً إلى تأييد الجماهير له، كما يفعل الزعماء عندنا، الذين يتمسكون بمراكزهم، مستغلّين محبّة ناسهم وتبعيتهم، فيبقون متزعّمين مدى الحياة، غير أن “كي” الناجح والمحبوب، قدّم استقالته، قائلاً جملته الشهيرة: “إن القادة الجيّدين يعرفون متى يجب عليهم الرحيل، وقد حان الوقت بالنسبة لي للقيام بذلك”.
أما ألمانيا، وبعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، تخلت عن أصناف “الفهارير”، لصالح سياسيّ عادي ذي كفاءة علمية وطباع إنسانية طبيعية يُدعى كونراد أديناور، وعندما أرادت برلين الغربية التخلّص من الحكم الاستبدادي الشيوعي في شرقها، لم تخلق “هتلراً” جديداً ليحرّرها أو يعيد وحدتها.
في اليابان، قبل الحرب العالمية الثانية، كان لقب الأمبراطور “تينو” أي “صاحب السيادة السماوية”. بعد الخسارة، عُدّل الدستور ونصّ على أن الأمبراطور هو “رمز الدولة ووحدة الشعب” دون أي سلطة سياسية، مع الإشارة إلى أن العائلة الملكية هي الأكبر في التاريخ وتمتدّ إلى 600 سنة قبل الميلاد.
أما عندنا، فلم تشهد حياتنا السياسية خبر استقالة الزعيم، إلا نادراً جدّاً، وربما يكون قرار سعد الحريري بتجميد مشواره السياسي وتياره، مشهداً غير مألوف، بغض النظر عن قراراته وإخفاقاته في إدارة المرحلة الممتدة من ثورة الأرز حتى اليوم، بالرغم من كل ما أعطي له من إرثٍ مالي وسياسي وعلاقات دولية واحتضان طائفته وانتشار وطني وتحالفات عريضة زمن 14 آذار.
انسحاب الحريري هو درس في ثقافة الإستقالة والمحاسبة الذاتية، لكنه يطرح بالمقابل ذهنية التبعية الجماهرية التي تعلق مستقبلها ودورها بفكرة الشخص، وهذه حال غالبية الأحزاب والتيارات السياسية في لبنان، ما يشير إلى الفارق الكبير بين الزعيم الذي يجعل الناس تثق به، وبين القائد الذي يجعلهم يثقون بأنفسهم، بأنهم قادرون على الإستمرار من دونه وبعده، وإن كان الزعيم أو القائد الجيد هو الذي يعرف مواعيد الرحيل، فالجمهور المصفق والمؤيد والمتفرج، لا يتحول إلى شعب جيّد وحيّ إلّا عندما يقرّر هو، متى يرحل زعماؤه وحكامه، فمستقبل الأوطان لا يجب أن يتوقّف حتى لو كان عكس التيار. “الأسماك الحيّة وحدها تسبح عكس التيّار”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
“ما في دولارات للقمح”… الأمن الغذائي أمام كارثة حقيقية وهذه هي الحلول! | في عيد مار مارون.. أين هم الموارنة اليوم؟! | العونيّون… من الفنيقيين إلى البعثيين؟ |