ليس بالدولار وحده
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان” :
هل أراد الرئيس سعد الحريري بنشره، عبر إحدى وسائل التواصل الإجتماعي، شريط فيديو، عن تجديد النسر حياته وطاقاته في عمر الأربعين، وصبره على الآلام ليستعيد قواه، أن يؤكد أنه سيعود إلى تجديد دوره السياسي، المعلّق حالياً، حين تواتيه الظروف؟
تقول الروايات الشعبية، غير العلمية المتداولة، إنّ النسر في هذا العمر، يثقُل ريشه ويضعُف منقاره، فلا يعود قادراً على التهام فريسته ولا يستطيع الطيران، وهنا عليه أن يتّخذ قراراً صارماً للاستمرار في الحياة والمضيّ قدماً فيها. لذا يطير إلى عشه على قمّةٍ عالية، وهناك يبدأ بضرب منقاره بصخرةٍ قويةٍ حتى يكسره، ويبدأ بنتف ريشه الذي أصبح لا يسهّل عليه الطيران. وعلى الرغم من أنّ هذه العملية قاسيةٌ ومؤلمة إلا أنها تنقذ حياته، فبعد مئةٍ وخمسين يوماً من ذلك، ينمو له ريشٌ جديدٌ ومنقارٌ قويٌّ جديد ليعود النّسر إلى حياته بقوّة، ويعيش بعد ذلك بمعدل ثلاثين عاماً جديدة.
تجديد النسر المحلّق حياته، مشهدٌ يعرفه بعضنا من باب الثقافة العامة، وتبني الحريري للفيديو وثّب آمال المستقبليين بعودةٍ مظفرةٍ لرئيسهم، لكنه لم يُسكت سؤال كثيرين: ما العمل إلى أن يستعيد النسر مُجدداً قواه وقدراته؟ هل يتنامى الالتزام بقرار تعليق العمل السياسي شخصياً وعائلياً وحزبياً؟ أم تبترد الحماسة وتنكشف عن انفعال، وليس عن فعل؟
في مطلع التسعينات من القرن الفائت، سألت رجلاً اختبر الحياة السياسية، وعركها وعركته، وهو المرحوم جوزيف أبو خليل، الذي ناداه الكتائبيون والقريبون منه بـ “العم”، وكان متّكأً لرئيس الحزب، ولنجليه، بشير وأمين ولأحفاده، ومرجعاً لمن جمع، من الشباب، بين السياسة والإعلام. سألته عن رأيه بالمقاطعة المسيحية، يومها، للانتخابات النيابية، ترشحاً واقتراعاً، فأجابني: حين وُضع لبنان تحت وصاية الانتداب الفرنسي، وبدأت ترتيبات بناء الدولة الوليدة، رفضها المسلمون، بحجة أنها دولةٌ كافرة، وظلوا خارجها إلى أن كان ما سمّي بثورة 1958، ثم الحرب متنوعة الهويات التي اشتعلت عام 1975، فجاء اللواء فؤاد شهاب، إثر الأولى إلى رئاسة الجمهورية وكان تعديلٌ محدودٌ، في عهده، في المشهد السياسي، وجاء “اتفاق الطائف” لينهي الثانية، ويوجد توازنًا، فقاطعه المسيحيون، ولانت مواقفهم منه بفضل مبادرات رفيق الحريري ورؤيته وطموحاته الأكبر من الطوائف، والبعيدة عن ضيق أفقها.
لم “يركب” المسلمون قطار الحكم تحت ظلّ الانتداب، ورفضه المسيحيون تحت الوصاية السورية، واستلزم الأمر ظروفاً وجهوداً كبرى ليلحق الطرفان، كلٌّ في أوان، بقطار الدولة، بعدما أضاع الكثير من دوره في نمائها وقيادتها، فهل يرتكب المستقبليون اليوم ما كان مرتين علةً تردي التوازن الوطني وانكساره؟
أيّا يكن الجواب، سلباً، أو إيجاباً، فإنه يرتّب مسؤوليةً كبيرةً على صاحبه، كونه يرسم جزئياً، على الأقل، ملامح لبنان الآتي، فهل العزوف الحريريّ قرار طائفةٍ بكليتها، أم قرار تيار المستقبل كتنظيمٍ سياسي، أو قرار التيار كموجةٍ شعبيةٍ لا تخبو؟
أيًّا يكن الرد، وهو لن يأتي قريباً، إذا أتى، فإنّ ما يجب ألّا يتجاهله الجميع، أنّ بين السياسيّ السيّء والسياسيّ الوطنيّ الجاد فيصلٌ قاطع بنوده التمسك بالدستور واتفاق الطائف والقضاء على الفساد ووضع استراتيجياتٍ للبنى الإقتصادية من زراعةٍ وصناعةٍ وسياحةٍ ونظامٍ مصرفيٍّ وغيرها، والأهمّ احترام القانون وتأكيد الفصل بين السلطات ووقف الخزعبلات السياسية التي تستبيح القوانين وتجعل من المؤسسات أدواتٍ غبّ الطلب، كحال محكمة الرؤساء والوزراء الحاضرة على الورق، والهيئة العليا لمحاربة الفساد التي ظلت سنوات حبراً على ورق، ولا تزال حتى اليوم أسيرة سوف، والتدقيق الجنائي الذي كالغول نسمع به ولا نراه.
الفرصة اليوم متاحةٌ أمام انتخاباتٍ على أساس احترام إرادة شهداء المرفأ، والجائعين في كلّ الوطن إلى الحرية والقانون قبل الخبز وإن كانت ندرته قاتلة، فليس بالدولار وحده يحيا اللبناني!
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |