البيروتي والمش بيروتي
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان” :
لفتني الأسبوع الفائت كلامٌ نُسِب إلى نائبٍ حاليٍّ ترشّح ليرث نفسه في مجلس النواب، وردّده، من بعده، مرشحٌ زميلٌ له في اللائحة يفاخر بعدم تعاطيه بالشأن السياسي، كأنّ ما يخوضه من صراعٍ على كرسيٍّ نيابيٍّ من قسمة بيروت ونصيبها من التوازن الوطني والجغرافي.
خلاصة كلام الثنائي أنّ الرئيس فؤاد السنيورة يتنكّب الحرص على تشجيع وجوهٍ شابةٍ من العاصمة لتشكيل لائحةٍ من مرشحين ذوي أهلية علمية وأخلاقية ومهنية، وهو ما لم يجدا عيباً فيه، فأضاءا على “عيب” لم يسبقهما إلى كشفه، لا الأموات ولا الأحياء، وهو أن السنيورة ليس من بيروت، وهو دخيلٌ عليها ومتدخلٌ في شؤونها.
جهل “حديثا السياسة” أنّ بيروت لم تغلق بابها يوماً في وجه من يأتي إليها، حتى الأشرار وخبيثي النيات، إلى أن يخطئوا في حقها، وحقّ أنفسهم، فكيف لا تحتضن من يحمل جهده وكدّه، وذخره من العلم والمعرفة، ليضيف إلى ثروتها في الفكر والفن والثقافة والسياسة، كما إرادة البذل والعمل والتقدم.
هذا ما يصنع هوية بيروت، أي ألقها ومجدها، وهو ما يستنفر أعداءها، ويؤلّب خصومها عليها. والهوية المعنية ليست طائفيةً ولا مذهبية، وهي لا تصبح كذلك إلّا حين يرفض الرافضون التسليم بأن لبيروت أهلها الذين يحتضنونها وأبناءها الذين تحتضنهم وهم من كل الطوائف. وهي، بالحرص نفسه، تحتضن البارين بها، والآيبين إلى فيئها ولماذا لا يكونون كذلك؟ أليس للنبطية أهل وأبناء، ومثلهم لصيدا وصور وزحلة والمختارة ودير القمر و… و… و… ولهذه جميعاً هويات أضيق من هوية الوطن تمنحها لأهلها وأبنائها، وتأخذ منهم أسلوب حياتها ونمط عيشها؟
الفارق الوحيد والأكبر بين بيروت وكل المدن الأخرى، والقرى والدساكر في الـ10452 كيلومتراً مربعاً،
هو أن بيروت قادرة على أن تمنح هويتها لكلّ من يقصدها ليتفيأ رقيها ويتظلّل سماحتها. لذا يرى الناظر إلى بيروت، تاريخاً وحاضراً، أن الأزمنة تتغير والناس تَتْرى، بينما بيروت أزلية، تتجدد من دون أن تتغير. لا يجرها قدمها إلى التأخر، ولا تسلخها حداثتها عن الأصالة.
استقبلت بيروت باستمرار كلّ وافدٍ من الداخل اللبناني أو الداخل العربي، بلا شرطٍ وبلا امتحان. لذا اغتنت بثقافات الجميع، وكوّنت للجميع درايةً في الحياة، احتوت أسساً للحوار والجوار عرفها كلّ من سكن المدينة وأسقط تلقائياً ما حمل من منبته، ووجده نقيض ما أقبل عليه، أو أضافه إذا كان مؤاتياً لنمطها في العيش.
من الدراية بهذا النمط نعرف أن الآتي إلى بيروت أمامه واحد من أمرين: إما أن يندمج وأسلوبها فيمتلك سرها، أو يحاول فرض نظامه ويدعي لتخلّفه تقدماً، فتصبر عليه وتتحمّله وترذله، فيظلّ نافراً وهجيناً يحاول أن يدمّر “المدينة” كنمط حياة فيدمّر نفسه، كطفلٍ متخلفٍ لا يحسن التعامل مع الحاسوب المتطور فيعتقد أنّ انتصاره على تخلّفه هو بتحطيم الآلة المتطوّرة، وليس بمحاولة امتلاك سرّها.
من يحطم الحاسوب، رمز التقدم حالياً، ليس بيروتيًّا حتى ولو كان جدّه السابع ابن هذه المدينة، ومن يسعى
إلى تأجيج التطور الاجتماعي والتقدم الديموقراطي وحفظ الدولة ومؤسساتها، هو بيروتيٌّ ولو لم يكن ابن بيروت لأنّه يفقه “روح” هذه المدينة، فهي أسلوب في الحياة لا يعرفه إلا من اكتنه سره، وهو سر نحسه ولا نستطيع وصفه. فبيروت ليست العاصمة فحسب، فأسلوبها في الحياة هو هويتها تمنحها لمن يستحق، ويجمع، لا لمن ينتهز ويفرّق.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |