إرث 14 و17
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان” :
يُبصم للسيد حسن نصرالله على ملكته الخطابية ومشهديته على المسرح السياسي، ولكن يجب أن يشهد، أيضاً، لقدرته على تغيير زاوية رؤيته للأمور، واستحسانه اليوم ما أدانه بالأمس، أو العكس، كما في خطابه في أعقاب إذاعة النتائج النهائية للإنتخابات، الذي كاد يوحي فيه بعلمانية لم نعهدها لديه ولا تنسجم مع واقعه: رفض شعار “شيعة…شيعة” وكأنه فوجئ بسماعه صباح اليوم نفسه مصادفة، كأنه ليس جزءاً من “الأدب الشعبي” الذي زرعه الحزب لدى “البيئة الحاضنة” الشهيرة التي تربت على يديه، ويتوارى خلفها عند كل اعتداء على اللبنانيين وقوات اليونيفيل ولجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
في خطابه الأول بعد الانتخابات لم يستطع إلا أن يوحي للبنانيين بأنه حامي الديموقراطية في البلاد. كيف؟ بتذكير الجميع، مواربة، بامتلاكه السلاح والقوة، لضربها بالقول إن حزب الله لو أراد تعطيل الانتخابات لفعل ذلك، أي أن إجراءها منّةٌ منه، وهبة.
قبل أيام معدودة من 15 أيار الإنتخابي، رفع، على غير عادته، في وجه اللبنانيين، لا سيما “عملاء السفارات”، على ما يزعم، إصبعين بدل إصبع، هما “الوسطى” و”السبَابة”، وليس الأخيرة وحدها على جاري عادته، ما يوحي بحال توتر مستجدة، لم تخفها ابتسامة مرسومة بالعناية المعتادة، ليهدد اللبنانيين ويتهم خصومه، من دون أي دليل، بأنهم يريدون شراً بـ”المقاومة”، وهذه تسمية صارت بحاجة إلى تمحيص لغوي و”جيوبوليتيكي” لمعرفة مدى قربها أو بعدها من التعريف التاريخي والأكاديمي العسكري لها، بعدما ابتذل استخدامها، “طلوع ونزول”، سواء عند اجتياح اسرائيلي، أو عند اغتيال الشهيد لقمان سليم وكل من سبقه، وربما يلحقه في يوم آت، طالما ساد منطق الدويلة.
كان هذا التوتر لافتاً، إذ جاء بعدما منع نظام “السحاسيح”، البدنية والمعنوية، على الشيعة الترشح خارج مظلة الحزب المتحكم، من الجنوب إلى البقاع، بحيث دانت له، ولحليفه، المقاعد النيابية لهذه الطائفة بأكثريتها، قبل أن تفتح مراكز الإقتراع ويحل موعد الانتخابات. لكن، يبدو أن ذلك لم يطمئنه، بدليل ما انتهت إليه حال حلفائه وأظهرتها النتائج: لم يستطع خرق البيئات الأخرى، فيما انخفضت نسبة الإقتراع في مناطق نفوذه “الحاضنة”، برغم بونات البنزين وما يشابهها.
يشهد الأسبوع الإنتخابي على براعة الأمين العام الخطابية والإعلامية وحلزونية مواقفه، وقدرته على تأويل الأمور بما يخدم أهدافه السياسية، تكتيكياً واستراتيجياً. فهو ضحية مؤامرات داخلية وخارجية حين يخدمه هذا “الصيت”، وهو “المنتصر” عليها بـ”سوبرمانية” مستحيلة على غيره، حين تتطلب الظروف العامة هذا الإدعاء. وهو الحريص على السلم الأهلي حين يستشف ظروفاً صعبة ستطبق عليه، فيبدي قبضة، يوحي بأنها حديدية، يغلفها بقفازات حريرية، اسمها الحرص على الإستقرار. ويظهر مغالاة في الوطنية بزعم عدم ظهور السفير الإيراني في لبنان أثناء الانتخابات، “بينما كان السفير السعودي “يدفع الأموال”، حسبما قال، وهو صاحب الإعلان الشهير عن انتمائه إلى طهران مالاً وسلاحاً وقوتاً ووقوداً ومعتقداً.
يعرف السيد نصر الله أنّ “الذي حصل هو انتصار كبير جداً”، كما قال، لكنه انتصار للتغيير وليس للعودة إلى ما قبل 15 أيار. فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة… وقد بدأت، ونجاحها الحاسم لا يكون من دون جبهة سلام وطني تضم السياديين من كل الإتجاهات، وفق استراتيجية واضحة فوق المحاصصات الإنتخابية والأنا الحزبية، فلا تتكرر ظروف اغتيال 14 آذار على يد أبنائها، ولا يترك للمندسين في انتفاضة 17 تشرين أن يعيدوا تآمرهم بإزكاء المشهد الطائفي البغيض لإطفاء وهج الديموقراطية المقبلة، فإرث الحركتين على المحك.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |