إلى “أبي” في قبره!
كتبت نسرين مرعب لـ”هنا لبنان”:
هو ليس يوماً عادياً.. فمواقع التواصل تزدحم بصور الآباء، والعناق، والحب.. بين هذه الصور أبحث عن أبي، عن طيفه، لا أجد. فأفتح هاتفي، وأهرب إلى الصور القديمة، وأقارن بينه وبين أولئك الآباء!
لا أحد كأبي.. هذه القناعة التي تترسّخ في داخلي. وليس لأنّي ابنته، بل لأنّه كان استثنائياً بكل ما تحمله هذه الكلمة من أبعاد!
من أبي، تعلّمت القوّة، والعاطفة.. تعلّمت المواجهة والتصميم. تعلّمت أن أكوّن ذاتي وأدافع عن طموحي وقناعاتي حتى أمامه، كنت أعارضه وكان يتفهّم، كنت أخوض نقاشات طويلة معه وأخرج في الكثير منها منتصرة، وكان في قلبه يبتسم لانتصاري!
“أنت أكثر عناداً مني”، هي العبارة التي كان يقولها لي بعد كل جدال. كان يقولها بفخر، كمن يرى نفسه في ابنته، يرى بها الشخصية التي يريد، لا شخصية الفتاة الخاضعة المستسلمة..
في كنف أبي لم يكن هناك من مكان للخوف، كان الأمان يتجسّد بكل شيء، بصوته، بابتسامته، وحتى بغضبه اللطيف. أجل، هو غضب لطيف، غضب لم يؤذني يوماً، لم يكسرني إطلاقاً لم يزعزع داخلي.. غضب كان يحتويني..
أبي، لم يكن الرجل الذي لا يبكي. بل بكى مراراً. كان رجلاً حقيقياً. لا يخفي دموعه على طفلته النائمة في غرفة العمليات، وهذه الطفلة أصبحت اليوم أنا.
لا يخفي دموعه، وهو يعتذر لي، بعد أن خانته الكلمات ذات يوم، فجرحتني إحداها. لا أذكر الكلمة، لا أذكر الجرح، كل ما أذكره هو عناقه وقبلته على رأسي، وصوته الذي اختنق بالبكاء وهو يعتذر لي..
نعم، أبي يملك جرأة الاعتذار. وأورثني إياها.
أبي، الذي تعلّمت منه أنّ الأبوة حب. وأنّ الرجولة موقف. وأنّ الحب هو كل شيء. لم يقسُ يوماً، لم يسلب منّا الحق في الحياة، في الأخطاء، في الجنون.. كان يترك لنا دوماً مسافة آمنة، كي نجرّب ونتعلّم. وحينما نقع، كان يخرج من حيث لا ننتظر، فيكون اليد التي تحملنا، لا التي تضربنا!
في اليوم العالمي للأب،
لا أجد إلا أبي. كل الصور تتلاشى. كل الآباء يصبحون بالنسبة لي طيفاً، وجهه وحده يتبلور، وكأنّ الأبوة بكل معانيها خلقت لأجله. هو فقط كان يسرد تفاصيلها، دون أن يشعر ودون حتى أن نشعر!
في اليوم العالمي للأب..
أقضي اليوم، وأنا أنظر إلى قبر أبي. قبر احتضنه لـ3 سنوات، بعدما احتضنني هو لـ30 عاماً.
أقضي اليوم وأنا أنظر إلى روحه، التي تحيط بي.
فهو رحل فقط بجسده. ولكن دون ذلك ها هو هنا، قربي، بكل خطوة، بكل نجاح. وها هو “نفسه” يغمرني، في كل انكسار، وصوته يهمس لي سرّاً، ليقول لي: “أنا هنا، إلى جانبك”!
في اليوم العالمي للأب.. كل عام وأنت قدوتي، وحبي.. وسندي. كل عام وأنت أجمل الآباء وأخلصهم حبّاً وحناناً وعطاءً..
مواضيع مماثلة للكاتب:
أين لبنان؟.. يا فيروز! | سليم عياش.. “القاتل يُقتل ولو بعد حين”! | نعيم قاسم “يعلّم” على الجيش.. الأمين العام “بالتزكية” ليس أميناً! |