بيسيكليت الواقعية
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان” :
ليس في موقف وليد جنبلاط المستجد تكويعة ولا انعطافة، بل عودة إلى مسار ثابت هو تجنب حافة الهاوية والقطيعة في أي اشتباك يلوح في أفقه السياسي، كزعيم طائفة فاعلة ليس بسبب عديدها البشري أو قدرتها التسلحية، بل بحسن توقيت خياراتها السياسية التي وحده “المعلّم” يملك ناصيتها، وموعد إشهارها، وكيف يمهد الطريق لـ”إزاحة الستارة” عن جديدها، ولا يقلّل من براعته اضطراره، أحيانا، للانقلاب على نفسه، كما حاله بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري حين دعا الى تشكيل جبهة عريضة تضم القوى الوطنية والإسلامية اللبنانية والفلسطينية وسوريا لمواجهة أي هجوم أميركي على لبنان، لكنه سرعان ما أعاد حساباته في هذا الصدد. فهو المرجع الحي لقول ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الشهير إن “لا شيء ثابت في السياسة، وليس من عداوة أو صداقة دائمة بل مصلحة دائمة”، ويروى عن جنبلاط قوله في لقاء خاص إن “الدروز وضعوا في رقبتي، وعلي حمايتهم من المذبحة القادمة”.
ربما تلخص الجملة الأخيرة أساس ما يسمى، إعلامياً، تقلبات جنبلاط، وأوضح الأمثلة على ذلك زيارته دمشق بعد اغتيال والده الشهيد، ولقاؤه الرئيس السوري حافظ الأسد الذي كان، ولا يزال، من الصعب تبرئته من دم زعيم المختارة الوالد.
قد يرى مراقب متفائل، كوليد جنبلاط، أن فتح المعابر بين المختارة والضاحية يعطي أملاً بالخروج بالبلاد من التجاذبات الإقليمية والدولية، وقد يؤدي إلى تضييق الخلاف، ويحمي البلد من أن يكون نقطة تجاذب في تحولات المنطقة الكبيرة”. لكن زعيم المختارة يعرف أن حسابات “حزب الله” المحلية تخضع، حتى ولو تقاربت مع حسابات خصومه، لقرار واستراتيجية مرجعيته الإقليمية، وأوضح مؤشر إلى ذلك أن الحكومة اللبنانية، والقوى السياسية، وهو منها، حين أجمعت على مبدأ النأي بالنفس عن الإنتفاضات في العالم العربي، لا سيما في سوريا، لم يصمد، على أرض الواقع، سوى أيام، ففشل “هذا الإختراع”، على قول جنبلاط في مقابلته مع “تلفزيون المملكة” الأردني، ولعل أقرب تشبيه لمصير النأي بالنفس هو ما أصاب القرار الأممي 242 الذي تساءل جنبلاط أين صار، والمعروف أنه صار من معلقات الندب واللطم العربي منذ أصدره مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة في 22 تشرين الثاني 1967، في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية الثالثة والتي وقعت في حزيران من العام المذكور وأسفرت عن هزيمة الجيوش العربية واحتلال إسرائيل لمناطق عربية جديدة.
نصّ القرار على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب المذكورة، وافتعل إشكالية لغوية (مقصودة أو عرضية) بررت نقاشا أبدياً زاد في تعطيل تحقيق السلام المأمول، لكنه صار مذاك قاعدة في كل تفاوض لحل الصراع العربي- الإسرائيلي، ووفر لإسرائيل درعاً من الغموض اللغوي، وحوّل قضية فلسطين إلى قضية لاجئين، بدل قضية احتلال استيطاني.
قياساً على القرار 242، ربح الحزب قدرة على إدانة “تدخل” مزعوم من خصومه في سوريا، بعدما برر تدخله بمزاعم اعتداء على مقامات دينية، ومع أنه مدّ تدخله إلى اليمن، مستخفاً بالنأي، مقدماً نفسه “قوة إقليمية” من خارج الدولة وفوقها، ولم يقم أي دليل على دور لمقاتلين من خصومه السياسيين، فمنطق القوة هو الأقوى، على قول راوي الأساطير الفرنسي جان دو لا فونتين، ويقال أنه استقاها من كتاب “كليلة ودمنة” الشهير الذي نقله إلى العربية عبد الله بن المقفع.
أعاد جنبلاط مجدداً معابره إلى الضاحية، بلقاء الخميس، وبرغم قوله أن النقاش كان للتباحث بأمور “لا علاقة لها بالقضايا الشائكة الكبرى بل لتذليل بعض العقبات حول موضوع الكهرباء والشركة السيادية للنفط”، فإن موضوع انتخاب رئيس جديد للبلاد، وفي الموعد الدستوري، كان “الطبق” الرئيسي، أما سلاح الحزب فقراره ليس في الضاحية، وطبعاً ليس في المختارة، بإقرار ساكنها، وأي “حلاوة من طرف لسان الحزب” في شأنه، سيروغ منها بفجاجة، لأن “قرار الحرب والسلم مع إيران”، على قول جنبلاط في مقابلة، مع تلفزيون “روسيا اليوم”، مطلع الأسبوع، وفيها رأى “أننا، ربما دخلنا في الحرب الروسية الأوكرانية لأن كلام أمين عام “حزب الله”، حسن نصرالله، كان واضحاً، “لا للغاز في البحر الأبيض المتوسط” ما يعني أنه يجيب الغرب ويقول لن تستطيعوا أن تعوضوا نقصان الغاز الروسي من البحر الأبيض من إسرائيل أو غيرها من المواقع، مختتماً، يومها بالقول “لبنان ذهب مع الريح”.
لم يدارِ جنبلاط، يوماً، عدم رغبته في الانضمام إلى جبهة سياسية ضد “حزب الله”، ربما منذ “غزوة” الحزب للجبل وبيروت في 7 أيار 2008، ولعل في ذلك ما يعلل موقفه الأخير من قائد حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع، ويبعده عن كونه عتباً ولوماً، سنداً إلى رد السيدة جعجع على مواقفه من ملفي رئاسة الجمهورية والمطران موسى الحاج، وتلويحه باحتمال دعمه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية في المعركة الرئاسية المقبلة.
لا تستقيم عودة التقارب مع “حزب الله” من دون تبريد العلاقة المتذبذبة مع “القوات اللبنانية”،إلى حدود الموت السريري، لتأكيد الإيحاء بالوقوف في الوسط. وإذا كانت “مصالحة الجبل” جوهرة العلاقة بين الطرفين، فإن التقلب ميزة التواصل بين الضاحية والجبل، وتجارب الحزب التقدمي مع حزب الضاحية، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ليست شاهداً إيجابياً، منذ أن أقدمت “قوى 14 آذار”، تحديدا “تيار المستقبل” و”الحزب التقدمي الإشتراكي”، على “اجتراح” التحالف الرباعي مع الثنائي الشيعي تحت عنوان إمكانية لبننة الحزب إياه، في انتخابات 2005 وصولاً إلى طاولات ومؤتمرات الحوار، انتهاء بتمييع الموافقة الصريحة على البنود السبعة إبّان سعي حكومة فؤاد السنيورة إلى وقف حرب تموز 2006، وصولاً إلى تمييع تبني “إعلان بعبدا” 2012.
برغم وقائع لا تمارى تدل إلى قدرة الحزب على الإنقلاب على تعهداته، ليس تجاه ايران طبعاً، بل تجاه الداخل اللبناني، فإن وليد جنبلاط يطمح إلى دور متبرع إطفائي لاعتقاده أن استباق الحريق يستلزم ترطيب الأرض، وتوفير الأمان لأهلها كي لا تصلهم النيران، ولو أشعلها “الجار أو الشريك في العيش”، حسب تعبيره، يساعده في ذلك، تحديداً في هذه المرحلة، أنه وحّد الدروز خلف قيادته، نيابياً، وعناوينه الراهنة معيشية وطنية بوضوح، فيبدو متخففاً من الأثقال كمن يقود دراجة هوائية، بيسيكليت، فيما الآخرون يقودون سيكسويل لا يسهل الإنعطاف بها، ولا التكويع.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |