بين نيويورك وصيدا
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
دفن فنان أفغاني، مدفوعاً بذكريات الماضي، 15 لوحة فنية كلها أعمال حديثة تصور المرأة، في مجمع بعد ثلاثة أيام على دخول حركة طالبان العاصمة كابول، في أيلول من العام الفائت. وعلى نسقه أخفت صانعة أفلام شهيرة، وقبل هروبها من البلاد، قرصاً صلباً يحتوي على أكثر من 20 فيلماً في مكان سري، بحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، حينها.
خلال العشرين عاماً الماضية من الوجود الغربي، ازدهرت الفنون، والأفلام، والموسيقى، والكتب. وتأثر جيل جديد من الفنانين بكثير من التقاليد والتاريخ الأفغاني بقدر ما تأثر بالمواضيع الحديثة مثل الحرب، والموسيقى الغربية، وحقوق النساء، والقمع في ظلّ طالبان. ويخشى كثير من الفنانين الأفغان أن تحكمهم نسخة متشددة تقوض المكاسب التي تمتعوا بها من حرية التعبير والأفكار على مدار العقدين الماضيين.
وحتى مع قيام بعض الفنانين بمخاطرات كبيرة لحماية أعمالهم، هرب كثيرون من البلاد، بينما يمارس آخرون الرقابة الذاتية لتجنب غضب طالبان. وقد دمر بعض الفنانين لوحاتهم أو منحوتاتهم، وأغلقت المحال التي تبيع الأدوات الموسيقية، وكذلك المعارض الفنية. وتوقفت الفرق الموسيقية الخاصة بحفلات الزفاف والمغنين عن العمل، إذ ألغت كثير من صالات الحفلات عرض الموسيقى الحية تجنباً لإغضاب طالبان. أما صناعة الأفلام الأفغانية، بالوقت الراهن، فهي ميتة.
ومن جانبه، قال بلال كريمي، نائب المتحدث باسم طالبان، إن الحكومة ما زالت “تعد إطار عمل” لجميع القضايا المتعلقة بالفن والثقافة، وأن “السماح أو منع” شكل من أشكال الفن ستحكمه الشريعة الإسلامية.
ويتوقع بعض الأفغان عودة طالبان بشكل كامل إلى تعصبهم الثقافي لفترة منتصف التسعينيات، عندما جاؤوا لأول مرة إلى الحكم. وحظرت الحركة التلفزيون، والراديو، والأفلام، وغيرها من أشكال الترفيه، ووصفتها بأنها غير أخلاقية ومفسدة اجتماعياً. وصادرت شرطة الأخلاق أو حطمت أجهزة التلفزيون، ومسجلات الفيديو، والكاميرات، وأطباق الأقمار الاصطناعية، وكان المخالفون يتعرضون للضرب.
ما سبق وأوردته صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية ، قبل أقل من سنة، عما شهدته أفغانستان بُعيَد انسحاب الأميركيين منها وعودة طالبان إليها بتنسيق قطري بين الطرفين، وما حدث في مدينة صيدا الساحلية اللبنانية، أخيراً، ذكّر بها، فلقد ألغت بلدية المدينة مهرجاناً، إعتادت إقامته سنوياً في إطار تنشيط السياحة في لبنان، ورضخت لأئمة المساجد وألغت حفلاً موسيقياً ترفيهياً كان سيقام في الواجهة البحرية للمدينة خلف الملعب البلدي.
اعتادت المدينة على هذا النمط من المهرجانات، ولها فيها مع الفرح موعد لا يفوّت إلّا لأسباب قاهرة، كما الحال مع “كورونا”، وهي، في الوقت نفسه، ظلّت متمسكة بتقاليدها المحافظة، ومفاهيمها الإجتماعية، وحريصة على تنشيط مرافقها، صيفاً، مثل معظم البلدات والمدن اللبنانية، بعد الجمود الاقتصادي الذي أثر على أسواقها.
تسمّى صيدا بوابة الجنوب، وما يريده رافضو فرحها أن تبقى مجرد بوابة لمن يقصدون الفرح لدى جيرانها من بلدات ومدن من جزين إلى صور، وحتى الناقورة، وهي عناوين معروفة للسهر والسمر وبها يستبدل الصيداويون مدينتهم “المحافظة” بحثاً عن حقهم في الإختيار، من دون أن يسقطوا قيمهم الثابتة.
يريد هؤلاء تجريد المدينة من تنوعها، الثقافي – الإجتماعي، بحجة الحرص على الدين، فيما يشهد التاريخ الإسلامي على أن فنون الغناء والشعر وأدوات الموسيقى كانت جزءاً من مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية في مكة المكرمة والمدينة المنورة، كأحد أبرز نماذج اللهو والترفيه منذ بزوغ فجر الإسلام، وهي امتداد لما كانت عليه فنون الغناء والموسيقى في العصر الجاهلي ولكن تم تهذيبها مع دخول الإسلام بمعايير الدين وأحكامه في الحفاظ على الأخلاق والآداب العامة، ومن المسلَّم به هو عدم وجود أي كلمة كراهية مباشرة للموسيقى في القرآن الكريم.
إذاً، من أين تأتي مغالاة البعض في تكبيل حق الفرح، وتقييد الحريات الفردية؟ من استقوائهم بصمت الآخرين، وهم الأكثرية، فيتركون للأقلية أن تفرض شروطها على الحياة العامة؟
سؤال من لبنان يلاقيه سؤال آخر من نيويورك: هل لا يزال “آيات شيطانية” وصاحبه سلمان رشدي، خطراً على الدين الإسلامي، بعد ما يناهز أربعة عقود من الزمن على ظهورهما، لم نشهد خلالها دفاعا عن مضمون الكتاب، بل دفاع عن حرية التعبير، وحق النقاش؟
أنسى الزمن العالم رشدي وكتابه، ولو أنه خطر على الدين، ويشكل هرطقة، لكان استمر موضع نقاش عام طيلة 35 سنة، وهو ما لم يقع، فهل في محاولة الإغتيال تذكير بأن فتوى الخميني لا تزال سيفاً مسلولاً، من جراب اعتراض داخلي إيراني على مسار مفاوضات جنيف، كمثل تقزيم الإعتدال بيد الملوحين في صيدا بضرورة المحافظة على التقاليد، التي لا يشهد الصيداويون منها نصرة الجائع، وإعانة الفقير، إلّا في النادر من الأحايين.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |