الأبنية التراثية في بيروت مهددة بالزوال، وشعبٌ دون تاريخ ليس له مستقبل!
كتب أنطوني الغبيرة لـ “هنا لبنان”:
“بيروت لا تموت”! تأبى هذه العاصمة اللّبنانية الانهزام والانحناء أمام الظروف الصعبة التي تمرّ بها. فعاصمة الشرق استقطبت أهمّ الشعراء والفلاسفة الّذين كتبوا عنها وعن جمالها وتميّزها. هي التي لم تتميّز فقط بموقعها بل أيضاً بالحضارات والثقافات والفنون.
اليوم تقف بيروت بين واقعٍ مريرٍ ومستقبلٍ مجهولٍ. أبنيتها التراثية مهدّدة بالزوال في أيّة لحظةٍ، ومع زوالها نطوي صفحةَ تاريخٍ مغمورٍ بالذكريات.
للإحاطة أكثر بمعلومات إضافية حول هذا الموضوع، تواصل “هنا لبنان” مع العضو المؤسس في جمعية تراث بيروت الأستاذ “جورج الغفري”، الّذي استهلّ حديثه بالتمييز بين المباني الأثرية والأخرى التراثية. واعتبر أنّ أغلبية الناشطين والجمعيات لديهم رأي مختلف في معظم الأوقات عن رأي الدولة والمعايير التي تعتمدها في تصنيف المباني التراثية.
مُشيراً إلى وجود مبانٍ ليس لديها هندسة معمارية عظيمة؛ غير أنّ الناشطين والجمعيات يعتبرونها ذات قيمة عظيمة! كالمبنى في المصيطبة الذي سكن فيه الجنرال الفرنسي شارل ديغول. فالبعد التاريخي والثقافي لهذا المبنى يجعل الجمعيات الثقافية تعتبره ذاكرة للتراث. وخلال حقبة عشرينيات القرن الماضي بُني وسط المدينة من جديد، وقبله في العام ١٨٤٠ تقريباً شيّدت كثير من البيوت والقصور التراثية في الجميزة والأشرفية والمصيطبة، زقاق البلاط، الرميل.
أضاف الغفري، بيروت تعرّضت لأحداث متنوعة عبر التاريخ، كالزلازل والحروب الخ… ومع إعادة تخطيط وتنظيم المدينة من قبل السلطنة العثمانية والبلدية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، أزيلت كثير من المباني الأثرية والتاريخية. وفقاً لهذه المعطيات نلاحظ أن المباني الأثرية موجودة من خلال بعض المساجد والكنائس.
أمّا عن دور الدولة في المحافظة على الأبنية التراثية، أشار الغفري أنّ غياب الرقابة، والفساد داخل الدولة إحدى أبرز الأسباب التي سهّلت عدم الحفاظ على الأبنية الأثرية، بظل غياب التخطيط والرؤية. هناك مبانٍ يجب أن تكون موضوعة على لائحة تصنيف المباني التراثية، لكنها لم تصنّف، لاعتبارات ومحسوبيات سياسية. على سبيل المثال مبنى مُصنّف تراثي من قبل وزارة الثقافة، قد يُتّخذ قرار هدمه من قبل بلدية بيروت وهنا لا تستطيع الوزارة محاسبة مالك المنزل بعد قرار البلدية. لأنّ آلية تطبيق حماية الأبنية التراثية في بيروت غير موجودة.
من ناحيةٍ أخرى، النشاط المدني لحماية هذه الأبنية بدأ مع إيفون سرسق وسيدات أخريات في ستينيات القرن الماضي، اللّواتي أسّسن جمعية للمحافظة على الابنية التراثية. وأطلعنا الغفري عن جزء من أحاديثه مع إيفون سرسق التي تملك واحداً من أهمّ القصور التراثية في بيروت، قصر ألفرد موسى سرسق. من خلال إحدى زياراته لها قبل وفاتها – وقد توفّيت في الأول من أيلول ٢٠٢٠ في ذكرى إعلان دولة لبنان الكبير، متأثرة بجراحها نتيجة انفجار بيروت – أشارت إلى أنّ عائلة سرسق من أولى العائلات التي كوّنت هوية تراثية عمرانية لبيروت؛
مُردفاً، التراث العمراني في بيروت مستوحى من القرى اللّبنانية وهندسة بيوتها الداخلية والخارجية. عدا عن أنّ تصاميم بيوت بيروت عبارة عن مزيج ما بين قناطر القرى، وبعض اللّمسات الأوروبية من فرنسا أو إيطاليا. وموقع لبنان ساهم بشكل أساسي على سهولة تفاعله لبناء تراثه الفريد.
اليوم وبعد سنتين من انفجار المرفأ، هناك بيوت مهمّة جداً في بيروت لم تبدأ صيانتها بعد ولا تزال مغطّاة، متروكة حالها حال إهراءات القمح بانتظار سقوطها. المشكلة الأساسية في لبنان تداخل عدّة معطيات مع بعضها، الأمر الذي يُعيق عملية المحافظة على المباني الأثرية. فقد يشتري سياسيّ معيّن عقاراً مصنّفاً على أنّه تراثيّ ويتركه دون صيانة لكي يهدم بمفرده ويرتفع سعره؛ أو العقارات الموجودة على أوتوستراد فؤاد بطرس المدفوع ثمنها منذ ٥٠ عاماً لشقّ طريق لم تشقّ لغاية اليوم ولم تعد حاجة للمواطن بعد تغير شكل المدينة؛ والخلاف قائم بين البلدية والسكان والناشطين لأنّ أغلبية الأبنية في هذا العقار هي تراثية.
الجمعيات اليوم ليس لديها القدرة لجمع عشرات ملايين الدولارات لصيانة الأبنية، مع العلم أن هناك جمعيات استطاعت تبنّي ما لا يتعدّى العشرة بيوت بعد الحصول على تمويل لصيانتها وهذا عمل عظيم. ليس من المفروض بحسب الغفري أن تحلّ أي جمعيّة أو تكتّل جمعيات مكان الدولة التي عليها أن تكون الناظم. وبانتظار تحرّك الدولة، هناك جهات لديها القدرة للمحافظة على تراث بيروت.
خاتماً، الجمعيات اليوم تنتظر الدعم المناسب لكي تعمل على صيانة الأبنية التراثية، هذا ليس القرار الأنسب لكنه الواقع. “البيوت إن تهدّمت، تمحى معها ذاكرة بيروت، وشعبٌ دون تاريخ ليس له مستقبل”! جمعية تراث بيروت كالجمعيات الأخرى تقوم ما بوسعها للمحافظة على الذاكرة العمرانية والإجتماعية والثقافية.
ذاكرة لبنان اليوم بحالة وجعٍ، فالأبنية التراثية متروكة دون تحرّك فعلي من دولةٍ أبسط ما نستطيع وصفها بالفاشلة. فهي لغاية اللّحظة لا تهتمّ لا بالبشر ولا بالحجر، غير مبالية بوجع مواطنيها، فكيف ستبالي بالمحافظة على تاريخهم وتراثهم.