التوافق لا التوافقي
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
ليست الدعوات إلى انتخاب رئيس توافقي سوى تغليف لسعي حزب السلاح إلى فرض رئيس للجمهورية يناسب مهامه في مشروع هيمنة إقليمي لم يعد شرحه غائباً عن أي متابع للحياة العامة في لبنان.
يعرف الحزب أن من الصعب عليه “استيلاد” نسخة من ميشال عون، الرئيس الحالي، يقدم له الطاعة والولاء على مدى 6 سنوات هي فترة الولاية الدستورية، وأن أفضل ما سيحصل عليه، إن حصل، رئيس على نسق العماد ميشال سليمان الذي “أنجبه” اتفاق الدوحة رئيساً، عقب إعتداء الحزب الغادر على بيروت والجبل في 7 أيار 2008، تحت عنوان السلاح لحماية السلاح. فلقد تميز عهد الرئيس سليمان بانقسام عهده إلى 3 مراحل: ليونة مطلقة مع الحزب في السنتين الأوليين، ثم سنتان من الحذر المتبادل (مع الحزب)، فالسنتان الأخيرتان اللتان تميزتا بأولوية الدولة على ما عداها، وتوجتا بـ “بيان بعبدا”، وإعلان تعرية الثلاثية الشهيرة التي سمّاها “الثلاثية الخشبية”، في أوضح “تمرد” على سرديات السيد حسن نصر الله، استعدت عليه أبواق الحزب، حتى بعد مغادرته رئاسة الجمهورية.
لم يكن ميشال عون، يوماً، رئيساً توافقياً، وإذا محّص المتابع في ما واكب وصوله إلى بعبدا، فإن ما يبرز له هو أن التوافق عليه كان غلالة لم تخف إذعان الفرقاء السياسيين لتسلط الحزب على البلاد، وتعطيل الحياة العامة سنتين ونصفاً، والتلذذ بالمآسي الإقتصادية والإجتماعية التي أغرقها فيها، وحمى “البيئة الحاضنة” منها بدورة إقتصادية مستقلة عن باقي البلاد، وغذّاها بالمال الإيراني “الحلال”، وأموال التهريب، والتهرّب، بكل الألوان.
حشر الحزب خصومه في بؤرة التعطيل، وكذبة التوافق، فانتقلوا إلى خط الدفاع الثاني وهو التشارك في المكاسب السياسية والإدارية المتوقعة، لكن مرشحه، بعدما صار رئيساً، لم يألُ جهداً، في التنكر لما وعد به وتعهّد، ولم يخلص إلّا لعزمه على تحريف تطبيق “اتفاق الطائف” بأي ثمن، ونتيجة ذلك أهدر أكثر من ثلث عهده، أي أكثر من سنتين، في مماحكات تشكيل الحكومات التي بلغ عددها أربعة مع اعتذارين عن التشكيل، إضافة إلى الوقت الضائع قبل الاستشارات النيابية الملزمة.
يحاول الحزب اليوم، وفي معطيات مختلفة عما كانت عليه سنة 2016، أن يحقق النتائج نفسها، أي أن يجبر القوى المعارضة لمشروعه، على الخضوع لمفهومه عن التوافق بإيصال شخص مطواع ومطيع إلى الرئاسة، يدين له بالولاء، والخطوة الأولى على هذه الدرب تكبيل الخصوم بفائض الحنو على البلد، والتهويل بخطر داهم إن لم يذعنوا لمقتضيات التوافق، الذي بات المرشح الدائم، في ظل سلاح الحزب، لرئاسة الجمهورية.
في الطريق إلى مبتغاه الرئاسي يشن الحزب حرباً وقائية ضد الخصوم باتهام كل مؤهل للرئاسة، من خارج هيمنته، ولو لم يفكر بالترشح، بأنه مرشح تحدٍّ، أي أنه، أي الحزب، يضع نفسه في موقع المعتدى عليه، وتالياً من حقه الدفاع عن النفس. والسؤال التلقائي هنا: كيف وضدّ من؟
كان اسم الرئيس يولد في مطبخ الوصاية السورية، وينتخبه النواب بالإيحاء المباشر، وهو ما أوصل الرئيسين الياس الهراوي والعماد أميل لحود إلى بعبدا. ثم ورث الحزب “قصر المهاجرين” فصار اسم الرئيس يتسلل من التشاور بين قم والضاحية، ونتيجة معادلات إقليمية ودولية، من المفاوضات النووية إلى ترسيم الحدود البحرية للبنان جنوباً.
المشهد الرئاسي اليوم، وديماغوجية الحزب، وترتيبات رئيس مجلس النواب في تناوله نصاب جلسة انتخاب الرئيس، أمور تستحضر مجهولاً مخترعاً اسمه المرشح التوافقي، وتغتاب المعلوم والمعروف وهو النص الدستوري الذي يقول صراحة وبلا أي لبس: ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.
في لبنان طبيعي لا تُقاسم فيه ميليشيا قرار الدولة، تعقد الجلسة الثانية لانتخاب رئيس فور فرز أصوات الجلسة الأولى، وتَبيّن عدم إجماع الثلثين، ويفوز المرشح عندها ولو بفارق صوت.
ما يجري اليوم إعتداء واضح وفج على الديموقراطية، وتحريف في النص الدستوري يرتكبه رأس السلطة التشريعية في البحث عن الضوء في عز الظهيرة. فالأحرى من التفتيش عن رئيس توافقي، أن يتم التوافق على الإلتزام بالدستور.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |