لم الشمل

كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:

أكدت القمة العربية الـ 31 في الجزائر “ثبات” العرب في المحطة نفسها منذ أول قمة “غير عادية” لقادتهم في قصر إنشاص في مدينة الإسكندرية في نهاية أيار 1946، بدعوة من الملك فاروق. فنصوص بيانات القمم عبر القرنين السابق والحالي، تتكرر مع تعديلات تفرضها تطورات سياسية إقليمية ودولية، سلباً وإيجاباً، وفق التقاربات، وأحياناً الخلافات. وكل ما نبهت إليه، ومنه، كان في مكانه، لكنها، برغم توقعه لم تستدركه، ووقعت في شركه.
ضمت القمة الأولى، قبل 77 سنة، الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية (22 آذار 1945م) وهي مصر وشرق الأردن والسعودية واليمن والعراق ولبنان وسوريا. يومها طالب المجتمعون، حرفيّاً، بالحفاظ على عروبة فلسطين ووقف الهجرة اليهودية إليها، ولم يصدر عن المؤتمر بيان ختامي، وإنما مجموعة من القرارات أهمها: – مساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها.
– قضية فلسطين قلب القضايا القومية، باعتبارها قطراً لا ينفصل عن باقي الأقطار العربية.
– ضرورة الوقوف أمام الصهيونية، باعتبارها خطراً لا يداهم فلسطين وحسب، وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية.
– الدعوة إلى وقف الهجرة اليهودية وقفاً تاماً، ومنع تسرب الأراضي العربية إلى أيدي الصهاينة، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين.
– اعتبار أي سياسة عدوانية موجهة ضد فلسطين تأخذ بها حكومتا أميركا وبريطانيا هي سياسة عدوانية تجاه كافة دول الجامعة العربية.
– الدفاع عن كيان فلسطين في حالة الاعتداء عليه.
– مساعدة عرب فلسطين بالمال، وبكل الوسائل الممكنة.
– ضرورة حصول طرابلس الغرب على الاستقلال.
– العمل على إنهاض الشعوب العربية وترقية مستواها الثقافي والمادي، لتمكنها من مواجهة أي اعتداء صهيوني داهم.
نبّه العرب أنفسهم، بأنفسهم، إلى المخاطر المقبلة عليهم، لكنهم لم يواجهوها بما يجب، وظلوا يصرخون أن الذئب هاجم عليهم، وحاربوه بالدعوات والابتهالات وسوء التدبير.
خفت نبرة الخطاب، منذ ذلك التاريخ، ليس لأن كثيراً منه تحقق، بل لأن الأيام والأحداث التهمته، وأردته في غياهب النسيان، ولعل المثال الفج هو في الكلام على نصرة فلسطين والتعاون العربي، والطريف، إذا جاز القول، هو في أن البيان الختامي، كما بيانات القمم السابقة، ينطوي على دعوات لخطوات يظهرها النص تقصيراً يسجل على الشعوب العربية، أو أن القادة مهمتهم مراقبة تنفيذها، لا المبادرة إلى ترجمتها وقائع تنفيذية توصل العرب إلى الترقي، وتربط مصالحهم المشتركة بمشاريع، تؤدي إلى وحدة مواقفهم، لا سيما في القضايا المصيرية، ليُحتسبوا بين الشعوب الفاعلة في المجتمع الدولي. وها هو رئيس الجزائر رئيس القمة، يدعو إلى بناء تكتل اقتصادي عربي منيع “يحفظ مصالحنا المشتركة”، فهل قدم اقتراحاً تنفيذياً لتحقيقه؟ السؤال نفسه ينطبق على أمين عام الجامعة أحمد أبو الغيط الذي قال في كلمته، خلال القمة إن “التطورات في سوريا تحتاج إلى جهد عربي رائد ومبادر يضع البصمة العربية على خريطة تسوية الوضع المأزوم في هذا البلد العربي المهم”. فهل بلورة خريطة طريق إلى ذلك؟
أعاد القادة العرب في قمتهم الجزائرية كلامهم الذي غيّبته “الكورونا” منذ 3 سنوات، فاستأنفوا العزف على إيقاع التضامن، والسعي لسد الثغرات في جدار تعاون لم يقم يوما بينهم على قواعد منتجة، واستراتيجية اقتصادية مثمرة. لو كان لذلك مكان، لكان ما يُسمى بمركزية القضية الفلسطينية بغير حاجة إلى أن ينبه إليها البيان الختامي في نسخته الأخيرة المنقحة، والمكررة في 31 قمة، إلى اليوم، وكذا التعاون المشترك، ورفض التدخلات الخارجية.
أوحى توالي رؤساء الوفود على منبر القمة بمشهد مألوف لدى بعض المذاهب والأديان هو تولّي أصدقاء وأقارب متوفٍّ ذكر حسناته قبيل دفنه، وما ميّز قمة الجزائر، كما سابقاتها، هو هذه الطاقة على تكرار الخطب والدعوات نفسها، بحيث أن بعض الخطباء تغيروا، على مر الزمن، لكن النصوص بقيت هي نفسها، ومعها بقي غياب آليات العمل واضحاً. ربما هذا الغياب سبّب تناقضاً بين الأقوال والأفعال، كما الوعد بنصرة القضية الفلسطينية، فيما ترجمات التلاقي والتعاون مع إسرائيل واضحة ومعلنة، برغم شعارات تعزيز وحدة الصف العربي الذي ازدادت تشققاته.
لم تعد القمم العربية تدعو، في انعقادها، إلى أي تفاؤل بتعزيز القدرات العربية، فشعار الوحدة يحلق في مدار الكرة الأرضية ويبتعد عن الأبصار، وظل شعاراً بلا محتوى من مهده في الخمسينات إلى لحده اليوم، والتذكير به أقرب إلى عملية عناد مع القدر، لا تجدي ولو تبلورت، والجدوى هذه تتطلب عقلاً يقصي الأوهام، ويُحل محلها التطبيق العاقل، وتجربة مجلس التعاون لدول الخليج، على بطء مسارها، نموذج يُجدي اتباعه، بمجالس للمغرب الكبير، ولشمال أفريقيا وللمشرق العربي، شرط البحث عن المصالح المشتركة لتقدم الشعوب.
سألني وزير الخارجية الفرنسي كلود شيسون، أثناء حوار معه بعدما شغل منصب وزير الخارجية، زمن فرنسوا ميتران: هل تعرف كيف ولد الاتحاد الأوروبي؟ واستطرد: من مشروع السوق العربية المشتركة الذي طُرح في مطلع الخمسينات، وظل حبراً على ورق.
عنونت الجزائر قمتها بـ”قمة لم الشمل” فحضرها ثلثا القادة العرب، برغم أن المرحلة عصيبة وفق قول الرئيس الجزائري، فكيف يجب أن تكون حال العرب كي يحضر الثلث الثالث؟

مواضيع مماثلة للكاتب:

الجرموز

من سيسرق المليار؟

قربة مثقوبة