سقف الإهمال قتل ماغي محمود في “مدرسة الموت”
كتب إيلي صرّوف لـ “هنا لبنان”:
هل من قهرٍ وظلمٍ أكثر من أن تُقتَل فتاةٌ بعمر الورد، أثناء جلوسها بسلامٍ على مقعدها الدّراسي، وفي جعبتها آمال وأحلام تتخطّى حدود سقف صفّها المتصدّع؟ وهل من حزنٍ وأسى أكثر من أن يزفّ أهلٌ ابنتهم إلى مثواها الأخير، بدلًا من أن يفرحوا بتخرّجها ونجاحاتها؟
ماغي محمود، تلميذةٌ شابّةٌ أُسكنت الجنّة بعمر الـ١٦ عامًا، تمثّل شعبًا بأكمله، يحلم ويناضل ويثابر لتقتنصه سهام الفساد والإهمال من حيث لا يدري. وثانويّة القبّة الرّسميّة الثّانية المختلطة في جبل محسن بمدينة طرابلس (المعروفة بمدرسة الأميركان)، هي أشبه بالبلد المتهالك، الّذي ينهار رويدًا رويدًا فوق رؤوس ساكنيه، ليتحوّل مقبرةً للأحلام والأبناء.
لم تعلم ماغي أنّ التّقصير وتقاعُس المسؤولين عن القيام بواجباتهم، سيُنهيان مسيرتها الأكاديميّة وحياتها في آنٍ، ويحوّلانها من طالبة عِلمٍ إلى ضحيّة إهمالٍ؛ لتكون درسًا قاسيًا جديدًا في “مدرسة الموت” المُسمّاة لبنان. هي الشّاهدة على مأساة المدرسة الرّسميّة، لم تمُت “قضاء وقدر”، بل قتلها غياب الصّيانة الدّوريّة والتّعديل الدّاخلي للمدرسة واهتراء الجهات المعنيّة، تمامًا كالبنى التّحتيّة في العديد من المؤسّسات التّربويّة والرّسميّة.
فبأيّ ذنبٍ قُتلت محمود؟ من المسؤول عن هذه الكارثة الجديدة، الّتي وقعت داخل مبنى يندرج على لائحة المباني الأثريّة في طرابلس؟ وهل أحدٌ سيُحاسَب، أم أنّ الجريمة ستُلفلَف كما الكثير من سابقاتها، و”العترة على يلّي بيروح”؟
في هذا الإطار، يوضح رئيس “شبكة سلامة المباني” المهندس يوسف عزام، لـ”هنا لبنان”، “أنّنا بدأنا منذ عام 2017 بتسليط الضّوء على السّلامة العامّة في المدارس خصوصًا، لأنّ لها خصوصيّة كون مستخدميها من الأطفال، وهؤلاء لهم أولويّة في كلّ دول العالم”.
ويشير إلى أنّ “وزارة التّربية والتّعليم العالي كانت قد أكّدت في تقريرٍ سابقٍ لها، وجود مدارس رسميّة تعاني من مشاكل تتعلّق بالسّلامة العامّة في المباني. وبعد الفاجعة الّتي حصلت في طرابلس، وجّهنا نداءً إلى الوزارة، وذكّرنا بأنّها المعنيّة بموضوع المدارس الرّسميّة، وما يمكنها القيام به هو التّأكّد من سلامتها وجودة مبانيها”. ويلفت إلى أنّ “الأطفال يذهبون إلى المدارس ليتعلّموا، لا ليُقتَلوا”.
لا شكّ أنّ مسؤوليّة الحادثة الأليمة الّتي وقعت يوم الأربعاء الماضي، تتقاسمها (وَلو بِنسبٍ متفاوتةٍ) وزارة التّربية ومديريّة الآثار المسؤولة عن الأبنية الأثريّة، إضافةً إلى إدارة المدرسة. وعن مسؤوليّة بلديّة طرابلس ودورها في هذا الصّدد، يؤكّد عزّام أنّ “كلّ بلديّةٍ وليس فقط بلديّة طرابلس، عليها أن تكون على درايةٍ بواقع الحال في المباني ضمن نطاقها الجغرافي، وليس فقط المدارس. البلديّة هي السّلطة المحليّة، وهي مسؤولة عن رعاية شؤون المواطنين في المنطقة بالنّسبة لأمور معيّنة”، مشدّدًا على أنّ “دورًا أساسيًّا تلعبه البلديّات بموضوع السّلامة العامّة. وكان يجب القيام بمسحٍ ميدانيٍّ، والتّأكّد أنّ المباني مطابقة للشّروط أو تعاني من مشاكل معيّنة”.
وذكّر بـ”أنّنا كشبكةٍ كنّا قد بدأنا بمسألة التّوعية الميدانيّة في عهد وزير الدّاخليّة والبلديّات السّابق مروان شربل، وزرنا مع مستشاره آنذاك نحو نصف البلديّات في لبنان، ووزّعنا كتيّبات تتضمّن المعايير الواجب توفّرها في المباني، وماهيّة المشاكل الّتي قد تعاني منها ومدى خطورتها”، مبيّنًا أنّ “ذلك كان عملًا تطوّعيًّا، إيمانًا منّا بأهميّة البلديّات ودورها الأساسي بتوعية النّاس، ومراقبة المباني”.
تُعاني الكثير من المباني الحكوميّة من تصدّعات ومشاكل، سواء على صعيد الجامعات أو المستشفيات أو الإدارات، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ زيارة إحداها أشبه بالمخاطرة، إذ لا نعرف متى تسقط على رؤوسنا حجارةٌ من السّقف، أو يتخلخل البلاط تحت أقدامنا، أو نكون ضحيّةً جديدةً نتيجة انهيار حائط مضعضع. ويفيد عزّام بأنّ “وزارة التّربية كانت قد ذكرت عام 2017، أنّ هناك نحو 100 مدرسة بحاجة إلى ترميمٍ فوريٍّ، ونتمنّى أن يكونوا قد قاموا بالأعمال الضّروريّة لكي ينخفض هذا العدد”. ويجزم “وجوب القيام بتشخيصٍ ومسوحاتٍ ميدانيّةٍ فوريّةٍ لاسيّما للمدارس القديمة”.
كأنّ قدر طرابلس الّتي خرج منها مليارديرات عرب، أن يلفّها الفقر والحرمان وتتّشح بالسّواد لفترةٍ طويلةٍ، وكأنّ الموت يلاحق أبناءها داخل منازلهم ومدارسهم وفي طعامهم ومياههم الملوّثة، وحتّى أثناء هربهم من جهنّم واقعهم المعيشي؛ في ظلّ عجز الدّولة عن تأمين مقوّمات السّلامة العامّة للمواطنين. سقف الإهمال سقط على ابنة طرابلس ماغي وقتلها، فمن يوقف عدّاد قتلى الفساد؟ ومن يُحاسب المقصّرين والمتورّطين؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
تحرير سعر ربطة الخبز… إلى 65 ألف ليرة سِر! | في سيناريوهات الحرب: مصير لبنان النّفطي معلّق بالممرّ البحري | جنود المستشفيات جاهزون للحرب… بشرط |