في ظل الانهيار الحالي… هل يمكن توقع وحدة سياسية في لبنان الكبير؟
كتب أنطوان قربان لـ “Ici Beyrouth” :
احتفلت الجمهورية اللبنانية بالذكرى التاسعة والسبعين لاستقلالها الوطني عن سلطة الانتداب الفرنسي الذي يصادف يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر).
ففي عام 1920، أنشأت فرنسا دولة لبنان الكبير، بعد ضم خمس مناطق ريفية وبلدات ساحلية إلى سنجق جبل لبنان، الذي أصبح يتمتع بحكم ذاتي عام 1861، قبل إعلان بيروت ولاية عثمانية عام 1888.
وفي ظل الانهيار الحالي للبنان الكبير، كان من الضروري طرح سؤال عما إن كان الدمج الذي خضع له لبنان مع المناطق والمدن آنذاك، قد أسهم في تحقيق الوحدة السياسية داخل دولة حديثة ذات سيادة سياسية وجغرافية ضمن حدود لا يمكن انتهاكها أو التشكيك فيها.
وتداولت وسائل الإعلام الأسبق ميشال عون في جولة بسيارة كهربائية مع صهره المفضل جبران باسيل في البترون، وسط حشد من الأنصار يهتفون للقائد ووريثه السياسي مؤكدين ولاءهم.
وتأتي أهمية هذه المقاطع المصورة في ظل أزمة الكهرباء التي أغرقت البلاد في ظلام دامس، بفضل الإدارة الكارثية لقطاع الكهرباء وموارد الطاقة التي يتحمل مسؤوليتها باسيل، وفي حين أن صهر العماد عون يملك أحدث سيارة كهربائية، كان لا بد من معرفة السبيل لشحن بطاريات الليثيوم التي تشغل هذه المركبة بالتزامن مع عدم قدرة كهرباء لبنان على توفير الطاقة للبلاد.
كما نود أن نستوضح كيف تراكم عجز مؤسسة كهرباء لبنان منذ 2009 تحت إدارة باسيل، ليصل إلى 40 مليار دولار، يضاف إلى ذلك سوء إدارة قطاع الاتصالات إضافة إلى المصاريف الباهظة لبناء العديد من السدود، كسد المسيلحة الذي تتسلل المياه منه إلى الأرض ولا يمكن تخزين قطرة ماء فيه.
وربما ستكون الإجابة على كل تلك التساؤلات بأن الرئيس الحالي للتيار الوطني الحر ليس المسؤول الوحيد عن إفلاس الدولة. وبالفعل، قد تكون المشكلة أعمق وثقافة تاريخية متجذرة سيطرت لقرون في جبل لبنان، حيث اضطرت الأقليات الدرزية والمارونية والشيعية في تلك الحقبة إلى التعايش معاً بفضل تأثير العائلات الإقطاعية.
وتمكن الموحدون الدروز على وجه الخصوص من التوصل إلى نظام تعايش على أساس الوحدة السياسية التي تضمنها إيجاد حلول وسطية ضمن تسويات بين وجهاء العشائر.
وتعد الوحدة السياسية في هذه المجتمعات الريفية، نظاماً تأسس بعد تفاهم بين العائلات الإقطاعية التي يقودها زعيم، وقد تمكنت السلطنة العثمانية من إدارة هذه المناطق والمجتمعات من خلال النظام الإقطاعي، في حين كانت المدن الساحلية والمناطق النائية ترزح تحت سيطرة البيروقراطية العثمانية، التي سيطرت على مناطق التجارة والمناطق الحضرية والساحلية، ومكنت برجوازية معينة من احتكار التجارة، وإدارة المدن.
وفي مقالته “بيروت عاصمة ضد جبل لبنان”، تناول عز الدين محمد قضية التمدن التي تفاقمت بسبب ارتفاع عدد سكان بيروت في عام 1840، والذي شهد نمواً سكانياً ارتفع من أقل من 10000 نسمة في عام 1800، إلى أكثر من 200000 في عام 1900. قبل إعلان هذه المدينة الجديدة عاصمة للبنان الكبير.
إن امتداد النهج الإقطاعي وروح العشائرية يتيح لنا فهم أسباب هتافات جمهور البترون لباسيل الذي سيرث الإرث السياسي للرئيس السابق، وهم المحرومون من الكهرباء والمياه الجارية.
لقد كانت فترة ولاية ميشال عون الممتدة من (2016-2022) بمثابة بداية شاقة لحماية سلطة الأسرة الحاكمة، والتي من المقرر أن تنتقل إلى صهره.
وتعتمد بعض العشائر في مناطق ريفية أخرى النهج ذاته، الأمر الذي يؤكد أنه إرث ثابت لا يمكن محوه في مجتمعات معينة، الأمر الذي يكرس لمسألة الوحدة السياسية.
وتعد الإقطاعية نظاماً قائماً على إلغاء صوت المواطن، حيث تكون السلطة للعائلات والعشائر، وهو أمر بعيد عن مفهوم العقد الاجتماعي، وكل من يدعم هذا الفكر يقع في شرك التعسف والتعاطف مع الزعماء”، وقد برز ذلك لدى آخر حاكم عثماني (1912-1915) للسنجق في جبل لبنان، أوهانيس باشا قيومجيان، الذي وصف المجتمعات في ولايته على أنها مزيج من “القبلية السامية والإقطاعية الهندو أوروبية”.
من جهته يأسف جورج قرم في كتابه في لبنان المعاصر، لعدم قدرة بيروت والجبل على الاندماج ببعضهما البعض بعد انضمامهما في عام 1920 إلى لبنان الكبير.
بدوره، شكك المبعوث الفرنسي إلى بلاد الشام روبرت دي كايكس دي سان أيمور (1869-1970)، بأن “تكون مدينة كبيرة مثل بيروت عاصمة يرغب سكان الجبل بالانتماء إليها؛ أو بتغيير طابعها… لا يزال الكثير من اللبنانيين يرون أنفسهم في بيروت وليسوا من “بيروت”.
وتلفت المؤرخة كارلا إيدي الانتباه إلى أهمية أن يطلق سكان بيروت الأصل لقب لبنانيين في حين أنهم من مدينة على الساحل السوري ، الأمر الذي يدعم المشروع اللبناني ويضعف الأصوات المارونيّة التي تطالب بجبل لبنان”.
وفي القرن التاسع عشر واصلت بيروت تقدمها بخلع الطابع العثماني واختيار الحداثة الغربية، من وجهة نظر حكام الجبل فإن التقدم يتماشى ويدعم رغبتهم بالحكم الذاتي، إلا أن القوميين العرب يعتبرون بيروت أصبحت بلا منازع عاصمة للنهضة الثقافية العربية، ومع تطورها ستصبح مسرح مواجهة بين منطق الأعراف والعشائرية من جهة والتمدن من جهة أخرى.
وبعدما أصبحت في غضون عقود واجهة للشرق العربي، وستستقبل كل قوميات الشرق.
ولم تملك بيروت يوماً ترف الوقت للانخراط في السياسة، في حين إن عائلات الجبل ووجهاء المدن الأرستقراطية ستنخرط في التنافس على إدارة البلاد باستخدام أقرب نزعة مجتمعية، الأمر الذي سيفرز نظاماً من المحسوبية الطائفية والفساد الذي سيحول دون تقدم المجتمع اللبناني، وفق قرم.
لقد حكم المجتمع في جبل لبنان، نظام سياسي قائم على الهيمنة المشتركة بين الطوائف قاده الإقطاعيون دون تدخل مباشر من السلطات الدينية، في حين أنه سيحكم لبنان الكبير ثلة من العائلات التي ستسعى إلى التوفيق بين القوى المجتمعية خلال تنافسها على السلطة.
وفي الذكرى التاسعة والسبعين لاستقلال لبنان، لا تزال بيروت على حالها، ولم تنجح بالاستقلال والتمتع بحكم ذاتي يمكنها من لعب الدور ريادي في مصفوفة الوحدة السياسية للبلاد.
ورغم أنها مركز اقتصادي وثقافي وحضاري، لم تتمكن بيروت من إدارة الأمور السياسية، وبقيت ريفية مجزأة، كما كان الحال خلال الحرب الأهلية بين عامي (1975-1990)، وكذلك هو الحال على وجه الخصوص، منذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005 الذي وضع لبنان وعاصمته تحت هيمنة قوتين عشائريتين هما حزب الله الشيعي، المسيحية المارونية، وهما قوتان ريفيتان جاءتا لتحلا محل القوتين البرجوازيتين السنية المارونية (رياض الصلح وبشارة الخوري).
وعلى الرغم من أن لبنان شهد الفترة “الحريرية” التي أسهمت بإعادة إعمار المدينة في الأعوام الممتدة بين (1992-2005)، إلا أنه من الواضح أن منطق الإقطاعية والعشيرة قد انتصر، إذ أنه بمجرد مراقبة حملة الانتخابات الرئاسية، يمكن ملاحظة أن ورثة العائلات المارونية يواجهون بعضهم البعض، في حين أن جبران باسيل جاء من خارج هذا النادي الإقطاعي، وقد كرس نفسه منذ تولي والد زوجته ميشال عون رئاسة الجمهورية في 2016 ، لمحاربة منافسيه الرئاسيين المسيحيين بشتى السبل بهدف تدميرهم سياسيًا.
ويحلم بعض الناس اليوم بالعودة إلى لبنان الصغير عام 1861 إلى حقبة سنجق جبل لبنان المستقل، في حين يود آخرون العودة إلى لوائح عام 1845 التي قسمت الجبل إلى منطقتين والتي كرست الحكم والاستقلال الذاتي للمجتمع، وهو بمثابة تقسيم طائفي على أساس مناطقي.
وتجري حاليًا مناقشة صيغ أخرى قد تسهم بانفجار داخلي، ويبدو أن الجميع لا تعجبه الدولة الوحدوية التي تم تأسيسها في عام 1920، دون النظر عن كثب بشأن الشرط الأساسي لأي صيغة فيدرالية، المتمثل بـ “الدولة المركزية”.
هناك نوعان من العقبات التي لا يمكن التغلب عليها لتطبيق أي صيغة فيدرالية حالية:
الأول هو الاختلاف القائم بشأن طبيعة الدولة المركزية، وهو الأمر الذي أسس للأزمة اللبنانية منذ عام 2005 مع صعود الهيمنة الإيرانية.
والثاني يتعلق بالموروث السياسي العشائري ولا سيما في الأوساط المسيحية، إذا كانت الحملة الرئاسية اليوم في لبنان هي عملية تصفية لحسابات بين الزعماء الموارنة المخولين للترشح في الانتخابات الرئاسية، فإنه يمكن يمكننا أن نتوقع نسبة مرتفعة لإمكانية اشتعال حرب أهلية بين زعماء العائلات المسيحية ينتصر فيها الأقوى بينهم، وهو ما قد يؤسس إلى حكم خال من الديمقراطية، برئاسة زعيم قادر على فعل أي شيء للاستيلاء على السلطة العليا.
وكان انفجار 4 آب 2020 في مرفأ بيروت بمثابة الستار على مغامرة استثنائية لمدينة كبيرة مفتوحة وعالمية، ويسدل هذا الانفجار الستار على فصل رائع من العاصمة اللبنانية التي باتت اليوم مشتتة بفعل قوى شعبوية وميليشيات ممولة من الخارج.
وإذا كان للذكرى الـ79 لاستقلال الجمهورية اللبنانية أي معنى، فإنه سيكون إعادة التفكير في بيروت لتطبيق مشروع الوحدة السياسية اللبنانية القادمة، بعيداً عن إطارها النمطي.
مواضيع ذات صلة :
نديم الجميّل: لا عيد ولا استقلال طالما لبنان في قبضة الاحتلال الايراني ورهينة بيد حزب الله | معوض: فجر العدالة سيبزغ… مهما طال الزمن! | لمناسبة الاستقلال… إضاءة المتحف بألوان العلم اللبناني |