مناعة الشعب اللبناني ضد الأزمات صامدة أكثر من الأزمات نفسها “وكأنّ الدنيا بألف خير “
كتب مازن مجوز لـ “هنا لبنان”:
من عجائب اللبناني الأكثر حداثة اليوم هو أن استهلاكه من البنزين لا يزال شبه مستقر، حتى في ظل إرتفاع أسعار المحروقات ووصول سعر صفيحة البنزين إلى ما بين 700 و800 ألف ليرة، وهذا الـ “شبه استقرار” لا ينحصر في مسألة تعاطيه مع هذه المادة الأساسية، بل ينسحب على الكثير من المواد الأساسية، وكذلك في عاداته في إرتياد المطاعم والمقاهي، وآخر مشهد هنا هو “التجمعات الشبابية” فيها خلال فترة المونديال، الذي لا يسدل شغفهم الستار عنه حتى صافرة نهاية المبارة النهائية.
وفي هذا السياق يعلق الدكتور طالب سعد الباحث في الاقتصاد السياسي والاجتماعي في حديث لـ “هنا لبنان” أنه من الواضح التراجع الكبير حيال الطلب على السلع الكمالية، مقارنة بالسلع الأساسية التي لم يتراجع الطلب عليها مهما ارتفعت أسعارها، وهذا مرده إلى ما يسمى بـ “مرونة الطلب” في الإقتصاد، وهي تختلف بحسب حاجة المجتمع لهذه السلعة، فالطلب على البنزين بقي كما هو تقريباً أو أقل بنسبة قليلة وهذا ما نسميه “طلب غير مرن”.
وبرأيه، فإن تفسير هذه الظاهرة يعود إلى غياب شبكة نقل تمكن المواطنين من الإستفادة منها في العاصمة بيروت خصوصاً، وفي بقية المناطق عموماً، ولو كان هناك شبكة مواصلات متطورة وشاملة لكنا رأينا بالتأكيد تراجعاً في إستهلاك البنزين نسبياً، كون الناس وجدت البديل.
في الواقع شر البلية ما يضحك فاللبناني أثبت أنه يتأقلم مع كل الظروف حتى مع “الطابور” حيث رأينا كيف أن التأقلم وصل إلى حد إختراع مهنة جديدة وباب رزق جديد، وهي أن ينتظر أحدهم بدلاً منك في “الطابور” لتعبئة البنزين مقابل 100 ألف ليرة.
في لبنان فقط، تجد بلاداً بأمّها وأبيها قادرة على أن تتعايش مع الأزمات وتتأقلم حتى مع الفراغ، فترى فواتير المطاعم والمقاهي تشتعل، ولا تفرغ من روادها، وحجوزات فترة الأعياد وليلة رأس السنة الميلادية في الفنادق والمطاعم والمقاهي “مفولة”، وإن وجدت أماكن غير محجوزة بعد، فأنت من المحظوظين، وقد ترتفع تلقائياً إلى مكانة “VIP”.
ومن بين أهم العوامل التي ساهمت في إستمرار هذه القدرة على التأقلم يركز طالب على عامل “تدولر” القطاع الخاص حيث بات يدفع لموظفيه قسماً من رواتبهم بالدولار “فريش”، ومساهمة الأموال التي يرسلها اللبنانيين في الخارج إلى ذويهم في الداخل بالدولار (فريش) وثالثاً الزيارات التي يقوم بها جزء من اللبنانيين المهاجرين إلى بلدهم الأم عبر رحلتي الصيف والشتاء وخلال فترات الأعياد لدى الطوائف كافة، ورابعاً مداخيل معظم الشركات في القطاع الخاص استعادت طبيعتها حيث تسعر منتجاتها وفق دولار السوق السوداء.
والعوامل التي تساهم في صمود القدرة الشرائية لدى اللبناني لا تتوقف هنا إذ يضيف طالب عليها لجوء اللبنانيين إلى تصريف الأموال المخبأة في البيوت واستخدامها في مشترياتهم اليومية. لافتاً إلى أن كل هذه العوامل تسمح للبناني بأن يتأقلم مع ارتفاع الأسعار، ويمكن القول أن هناك 20 % من اللبنانيين يتمتعون بهذه العوامل أو بإحداها”.
في المقابل يؤكد طالب أن إعطاء ما قيمته راتبين إضافيين على رواتب موظفي القطاع العام هو أقصى شيء حققته موازنة 2022 لكنه لا يكفي للعيش بشكل لائق، معطياً أمثلة ومنها إنتقال موظفين من القطاع العام إلى القطاع الخاص ولو بشكل خفيف فمثلاً الكثير من القطاعات العسكرية والمدنية تسمح بدوام يومين فقط، إفساحاً للمجال للموظف للعمل في عمل ثانٍ في القطاع الخاص.
وفي الختام يبدو أن تعايش اللبناني مع الأزمات ليس وليد اليوم ولا وليد الصدفة، فقد كتب الكثير عن تعايشه مع الحرب الأهلية عام 1975 والإجتياح الاسرائيلي والأزمات السياسية، وها هو اليوم يجد حلولاً معيشية، وهو في قلب أزمة إقتصادية مالية معيشية غير مسبوقة، ليبرز السؤال الآتي: لو كان اللبناني ضعيفاً أمام الأزمات أما كنّا أمام إنهيار كامل لكل القطاعات؟ وبالتالي كنا قد شهدنا عملية إعادة بناء لكل قطاع من جديد؟ وهل هذا التعايش هو نعمة عليه أم نقمة بات من واجبه التخلص منها؟
مواضيع مماثلة للكاتب:
“ابتكار لبناني”.. أملٌ واعد لفاقدي البصر! | بين القوننة والأنسنة.. هل تهدّد التكنولوجيا أطفالنا؟ | لبنان غنيّ بالمياه الجوفية العذبة.. ثروة مهدورة بلا استثمار! |