المغالطات آفة الثقافة الطبية على الإنترنت
يمتلئ الإنترنت بنصائح يطلق عليها “طبية” تكون عواقب معظمها وخيمة، إذ لا تستند إلى رأي علمي كما أن مصدرها عادة لا يكون مختصاً في مجال الصحة وإنما هي اجتهادات، لذلك يبذل الأطباء قصارى جهدهم لمحاولة تصحيح تلك المفاهيم لدى العامة ويطالبونهم بعدم الجري وراء معلومات مضللة تؤثر فيهم سلباً.
لكن ماذا إذا كان بعض الأطباء أنفسهم هم مصدر هذا الضرر أو على الأقل “عدم النفع”؟ وماذا إذا كانوا يستندون إلى دراسات غير محدثة أو إلى معلومات متوارثة لم تثبت صحتها بالشكل الكافي؟ وهل بات التراث الطبي أيضاً بحاجة إلى التنقيح؟
بالطبع المقصود هنا لا يتعلق بأساسات العلوم الطبية ولا بالأخطاء التي تدخل تحت بند مختلف تماماً، لكن بنصائح أساسية راسخة تؤثر في الصحة العامة للإنسان، ونظراً إلى أن قائلها يكون الطبيب المعالج المحصن فهي تؤخذ على أنها موثوقة تماماً، وتكون عادة في أمور تتعلق بالممارسات اليومية وعادات الطعام.
فالدراسات الحديثة هذه الأيام أثبتت أن كثيراً من الوصفات التي يتناقلها الأطباء من جيل إلى آخر ربما بحاجة إلى مراجعة، بخاصة في ظل تداول دراسات علمية متناقضة وكأن العلم يكذب نفسه.
توصيات كلاسيكية
ومن أبرز النصائح الكلاسيكية التي ربما سمعها الملايين أو المليارات من البشر، وتعود تقريباً إلى أربعينيات القرن الماضي هي ضرورة شرب ما لا يقل عن ثمانية أكواب من الماء يومياً، فالأطباء لا سيما المتخصصون في أمراض الباطنة وأمراض النساء يرددون تلك الكلمات بأريحية شديدة، وتأكيداتهم الدائمة عليها توحي بأنها ربما الحل الساحر للشكاوى كافة، بما في ذلك من آثار إيجابية على حركة الأمعاء والهضم وقوة العظام والمفاصل، وأيضاً الحفاظ على درجة حرارة الجسم وصحة الجلد وطرد السموم والمحافظة على آلية عمل الكلى وغيرها.
تلك النصيحة التي استثمر فيها الأطباء على مدى عقود طويلة حتى لم تعد تقبل الشك بأي حال من الأحوال، وكانت بمثابة ناموس لكثير من الهيئات الصحية ذات الصدقية وبينها هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا وهيئة سلامة الغذاء الأوروبية، أثبتت الدراسات العلمية وبكل بساطة عدم دقتها.
فعلى رغم الأهمية الكبرى لشرب كم كاف من المياه بشكل يومي إلا أن هناك أكثر من جهة علمية موثوقة وبينها “جامعة روهامبتون اللندنية”، أشارت في أبحاثها أخيراً إلى أن ليتري السوائل اللذين يوصي بهما الأطباء على المعظم هو مقدار كبير قد لا يلائم كثيرين، وذلك وفقاً لمعدل دوران المياه في الجسم الذي يختلف من شخص لآخر، وبحسب عمره وتاريخه الطبي وجنسه، وحتى طبيعة البيئة التي يعيش بها، كما أن هناك اعتباراً أساسياً لنوعية الأطعمة التي قد يحتوي بعضها على قدر من المياه.
جراح المخ والأعصاب والعمود الفقري الطبيب عمرو سالم الأخرسي أكد أن نصائح زيادة شرب المياه لا ينبغي أن تكون مطلقة من دون مراعاة حال كل مريض، مضيفاً أنه “للأسف هناك بعض الأطباء يأخذون هذه النصيحة السائدة ويرددونها على أسماع جميع المرضى من دون الوضع في الاعتبار أن كل حالة تختلف عن الأخرى”.
وقال الأخرسي إنه ووفق التخصص الذي يعالجه فشرب المياه أمر ضروي للغاية لمساعدة الذين يعانون مشكلات في العمود الفقري والتهابات الأعصاب وغيرها، لكنه يعود ليوضح أنه بالطبع إذا كان المريض يعاني على سبيل المثال ضغط الدم المرتفع، فمن المؤكد أن شرب ثمانية أكواب من المياه سيتسبب بأضرار له، فتفاصيل وضع المريض ينبغي وضعها في الحسبان بالمقام الأول.
من ينقح المغالطات الطبية؟
ويرى الأخرسى أن لديه وزملاءه فرصة كبيرة للاطلاع وتحديث معلوماتهم من خلال متابعة كل الدراسات والدوريات العلمية الحديثة عبر وسائط شتى، وهو أمر لم يكن متاحاً بتلك السهولة فيما قبل، مثمناً وجود الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي تسهم في تواصلهم مع المراكز العلمية ذات الثقة ليعرفوا آخر ما وصلت إليه الأبحاث، وهذا بالطبع يكون نبراساً لهم لمراجعة أمور كثيرة كانوا يعتقدون أنها لا تقبل الشك، وقال إن كل تخصص طبي يراجع معلوماته ويحدثها كل فترة وفقاً لما تتوصل إليه الدراسات.
وأشار إلى أن “كميات شرب الماء على سبيل المثال لا تتعلق بشكل مباشر بأمراض المخ، لكن منذ العام 1873 وهناك اتهامات كانت تتردد بين الحين والآخر إلى الماء باعتباره أحد أسباب الوفاة غير المباشرة لنجم الفنون القتالية بروس لي الذي فارق الحياة بشكل مفاجئ وهو في الـ 33 من عمره”.
وبحسب ورقة بحثية كشف عنها قبل أسابيع ونشرت في مجلة “كلينيكال كيدني جورنال – “Clinical Kidney Journal، فإن لي كان يتبع نظاماً غذائياً معيناً يتضمن استهلاك كم مبالغ فيه من المياه، وما حدث هو أن الكليتين توقفتا عن العمل ولم تتمكنا من إفراز كل هذا القدر من السوائل، فحدث له استسقاء في الدماغ بسبب تلك التخمة في السوائل.
من جانبه، قال الطبيب سامح شحاتة الذي عمل في إدارة عدد من المنشآت الصحية، “إن المراجعات الطبية أمر محمود للغاية بل وضروري ولا يمكن الاستغناء عنه، فالعلوم في تطور دائم ومستمر ومن غير الوارد ألا يقوم رواد هذا القطاع بتحديث ما لديهم”.
وأشار شحاتة إلى أن “الخبرة اليومية والتعامل مع عدد كبير من المرضى يقود دوماً إلى حقيقة جوهرية، وهي أن كل حالة متفردة بنوعها”، منوهاً إلى أن هناك اجتماعات دائمة معه ومع زملائه لمتابعة كل جديد يصدر عن الإصدارات العلمية ويتم تداوله في المؤتمرات الطبية الكبرى.
نصائح “الترند”
وبالحديث عن التوصيات التي تخرج من أفواه الأطباء، فالأمر لا يقتصر فقط على مطالبة المريض بشرب هذا الكم الذي قد يبدو مفرطاً من المياه، والذي قد لا يتناسب مع جميع الأجساد، لكن أيضا في ما يتعلق بـ “ترند” بعض الأنظمة الغذائية التي لم يعد مصدرها نصائح الأصدقاء فقط، بل بعض الأطباء الذين يروجون لأنفسهم بها باعتبارهم بارعين في تطبيقها على المرضى.
ومن بين تلك الأنظمة الصيام المتقطع الذي بات شائعاً للغاية وينصح به كثيرون، مشيدين بقدرته على الإسهام في إنقاص الوزن وأنه لا يضر أبداً ويلائم الجميع، وانتشار هذا النظام جاء بالطبع بعد أن أثنت عليه بعض الدراسات في إنقاص الوزن وبينها دراسة أميركية نشرت نتائجها في دورية “غاما” للطب الباطني قبل أكثر من خمس سنوات.
وخلصت الدراسة إلى أن الصيام لمدة يوم والأكل في اليوم التالي على مدى أسابيع يسهم في فقدان الوزن بصورة ملحوظة، لكن أخيراً بات هناك هوس طبي وجماهيري بهذا النظام، إذ إن بعض المتخصصين يعتبره آمناً مع كل الحالات، لتأتي المفاجأة من خلال دراسات علمية حديثة تؤكد أن تلك الحمية التي يمكن ممارستها بشكل يومي أو على مدى يوم ويوم قد تسهم بشكل ملحوظ في خسارة كبيرة بكتلة العضلات لما لها من آثار سيئة.
كما نشرت مجلة “Eating Behaviors” الكندية قبل أشهر دراسة أخرى أكدت أن الصيام المتقطع مرتبط ارتباطاً وثيقاً لدى كثير من المراهقين بأنماط مختلفة من اضطرابات الطعام، وهي حال طبية تستلزم التدخل في أحيان كثيرة وترتبط بالإفراط في تناول الطعام أو القيء أو حتى ممارسة التمارين الرياضية القاسية بشكل قهري.
وهنا أشار الأخرسي إلى أن نظام الصيام المتقطع قد تكون له عواقب سلبية على مرضى السكر والروماتيزم على سبيل المثال، مبدياً أسفه أن بعض المتخصصين لا يضعون في اعتبارهم تلك الاستثناءات، وهي أمور يمكن الاطلاع عليها بسهولة من خلال مواكبة ما يجري عبر المؤتمرات الطبية والأبحاث التي تصدر عن مؤسسات صحية مرموقة.
الاستثناء هو القاعدة
حمية غذائية أخرى تحظى بشعبية كبيرة، وهي نظام الـ “كيتو” الذي يقوم بحسب المتخصصين على تقليل الكربوهيدرات في مقابل زيادة حصة الدهون في النظام الغذائي بصورة كبيرة، وهي حمية شهيرة ينصح بها عدد غير قليل من أطباء علاج السمنة.
وكان من بين هؤلاء طبيب شهير ذهبت إليه “نور.ع”، وهي سيدة ثلاثينية لا تشكو من أية أمراض مزمنة، إذ كانت سعيدة للغاية في بداية اتباعها لهذا النظام، مؤكدة أنها كانت تستهلك كميات كبيرة من الدهون ولا تشعر بالجوع، ومع ذلك ظهر عليها فقدان الوزن بشكل واضح.
لكن بعد أسابيع فوجئت برد فعل تحسسي صادم تمثل في ظهور بثور ونتوءات وتقرحات بأنحاء مختلفة من الجسم، ولم تتوقع أبداً أن يكون هذا التحول جراء الحمية، نظراً لمأمونيتها كما أخبرها الطبيب.
وفي قسم الطوارئ الذي ذهبت إليه اعتقاداً في البداية أنها تعرضت إلى لسعة حشرة تسببت في هذا التحسس، شك الطبيب المناوب في أن السبب ربما يكون الحمية، وبعد أن تم إسعافها بشكل أولى لم تقتنع بكلام طبيب الطوارئ، لكن وضع الحساسية استمر مثلما هو لتجرب أخيراً إيقاف الـ “كيتو”، وخلال أيام قليلة عادت بشرتها لطبيعتها تماماً لتفاجأ بأن نظام الحمية لم يكن يلائمها بالمرة.
وقالت إنها لم تكن تتوقع أن النصيحة الطبية التي أخذتها من متخصص لم تكن دقيقة بما يكفي، أو أن صاحبها لم يراجع أحدث الدراسات التي تشير إلى أن هناك استثناءات لكل نظام غذائي ينبغي وضعها في الاعتبار.
أقراص الفحم النشط
ومن أكثر الوصفات المنتشرة أيضاً بين بعض الأطباء ووقع كثيرون في فخها أقراص الفحم النشط، لدرجة أن عدداً من الناس يتعاملون معها وكأنها “حلوى”، وذلك بعد أن سمعوا طبيبهم ذات مرة يقول إنها فعالة في طرد السموم من الجسم، وبالطبع قد يكون لها تأثير طفيف في حالات بعينها، لكنها أيضاً مثلها مثل أي مادة طبية ليست آمنة بأية كمية ولا بكل الحالات.
وبالتجارب فإن تناول تلك الأقراص قد يسبب لحالات معينة اضطرابات في الجهاز الهضمي وتشجنات، ولا تختلف عنها كثيراً توصيات قطاع من أطباء الفم والأسنان المتعلقة بضرورة أن يتم استعمال المعجون والفرشاة بعد تناول وجبات الطعام مباشرة لمدة ثلاث مرات يوميا، ليأتي أطباء الأسنان أيضاً وعبر ظهور تليفزيوني متكرر أو حتى عبر لقاءاتهم بالمرضى في العيادات ويطلبون التأني بعض الشيء في غسل الأسنان بالفرشاة والمعجون.
وقال الأطباء إنه بات من المفضل أن تتم العملية عقب ساعة على الأقل من تناول الوجبة كي لا يضعف مينا الأسنان، لا سيما لو كانت الوجبة تحوي مكونات قوية مثل الأحماض، بل إن بعضهم يرى أن بعض منتجات غسل الأسنان قد تتضمن قدراً مبالغاً فيه من مادة الفلورايد، وبالتالي تتسبب في تآكل الطبقة الخارجية الطبيعة اللامعة للأسنان، وبهذا فمنهم من يوصي بالاكتفاء باستخدام تلك المواد مرتين فقط، ولا عزاء للإعلانات التجارية التي كانت تستعين بالطبيب الذي يرتدي البالطو الأبيض وعلى وجهه ابتسامة ناصعة البياض لينصح كل المشاهدين باستعمال المعجون والفرشاة كلما مضغوا قطعة طعام.
المصدر: INDEPENDENT عربية
مواضيع ذات صلة :
“الاتصالات” باشرت بتزويد باقة مجانية من الإنترنت للطلاب والمعلّمين | القرم: هناك خطرًا على الإنترنت في لبنان | هل بريدك الإلكتروني بأمان؟ إليك بعض النصائح |