قضاءٌ ينتظر قدره
القاضي طارق البيطار تجنّب إحراج المؤسسات الأمنية، لذلك لا مشكلة في تأجيل الجلسات لأسابيع إضافية، لكن التحقيق سيُستكمل، والمذكرات التي سيصدرها ستُنفّذ ولا مساومة عليها.
كتب يوسف دياب لـ “هنا لبنان”:
هي ليست المرّة الأولى التي تتضارب فيها مواقف المراجع القضائية على ملفات محددة، كما يحصل الآن في الصراع على ملفّ التحقيق بجريمة انفجار مرفأ بيروت، لكنها المرّة الأولى التي تقع فيها السلطة القضائية بمأزق عميق، أوصلها إلى انقسام حادّ، والمفارقة أنّ الشرخ يضرب مجلس القضاء الأعلى، الذي يمثّل رأس الهرم.
لم يعد البحث جارياً على حلول تطلق مجدداً يد المحقق العدلي طارق البيطار، وتعيد التحقيق إلى مساره الطبيعي وترقّب حقيقة انفجار الرابع من آب التي ينتظرها اللبنانيون، بل ينصبّ على محاولة إنقاذ مؤسسة العدالة التي ضربت نفسها بنفسها، وفقدت ثقة اللبنانيين بها. ثمّة صعوبة في وقف الانحدار القضائي، فتطيير اجتماع مجلس القضاء الذي كان محدداً الثلاثاء الماضي بدعوة من وزير العدل هنري الخوري، أطاح بمساعي رئيسه القاضي سهيل عبّود، لرأب الصدع بين المحقق العدلي طارق البيطار وبين النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، وعمّق الانقسام بين عبّود وأكثرية الأعضاء المجلس الذين بدأوا يبحثون عن خيارات التحرر من قيود رئيسهم الرافض لأي حلّ يفضي للإطاحة بالبيطار.
قد يكون عبّود محقاً بإمعانه في نسف الاجتماعات، بانتظار تسوية بين المحقق العدلي والنائب العام التمييزي، لا شكّ أنه يمثّل حصن الدفاع الأخير عن البيطار وإفشال محاولات “قبعه”، وبنظره إن حماية قاضي التحقيق العدلي تعني حماية القضاء واستقلالية كلّ قاضٍ في ملفّه، أكثر مما هي حماية شخص بعينه، لكنّ ثمة استحالة بإرساء معادلة من هذا النوع، فلا حلّ وسطاً يمكن أن ينقذ البيطار وعويدات في آن.
ساد الاعتقاد في الأيام الأخيرة، بأن تراجع البيطار خطوة إلى الوراء، بقرار تأجيل جلسات استجواب المدعى عليهم من سياسيين ومسؤولين أمنيين وقضائيين إلى موعد لم يحدد بعد، نزع فتيل “التفجير القضائي” من الداخل، والذي كان وارداً في حال أصدر البيطار مذكرات توقيف غيابية يوم الاثنين بحق الوزيرين السابقين غازي زعيتر ونهاد المشنوق، والذي كان سيعقبه حتماً مسارعة عويدات إلى تكليف جهاز أمن الدولة بإحضار المحقق العدلي بالقوة، بوصفه مدعى عليه بـ “انتحال صفة” لإصراره على استئناف التحقيق رغم كفّ يده، غير أن الأجواء التي أعقبت هذه الخطوة بدت سلبية للغاية، فالرئيس عبّود الذي نجح بفرملة اندفاعة البيطار بانتظار تسويق حلّ مقبول، أخفق في إقناع زملائه في مجلس القضاء بتأجيل الاجتماع الذي دعا إليه وزير العدل لبحث مصير المحقق العدلي.
يعزو مصدر قضائي مطلع تطيير جلسة مجلس القضاء، إلى أن عبّود لمس رغبة لدى أكثرية أعضاء المجلس بإقالة البيطار وتعيين محقق بديل عنه في نفس الجلسة، وأن ذلك يحصل بالتناغم مع وزير العدل، بخلاف كل مساعي التهدئة التي عمل عليها رئيس المجلس خلال عطلة الأسبوع الماضي وقبيل ساعات من جلسة التحقيق التي كانت محددة الاثنين. ولا يخفي المصدر بأن عبود “لمس مؤامرة حيكت من وراء ظهره تمهّد للإطاحة بالبيطار”. ويؤكد لـ “هنا لبنان” أن الأعضاء الأربعة الذين يقفون في الجبهة المعارضة لعبود القضاة: حبيب مزهر، داني شبيلي، الياس ريشا وميراي الحداد، ويتناغم معهم عويدات “يصرّون على أخذ المبادرة وإنهاء ظاهرة البيطار، بدليل انضمام النائب العام التمييزي إلى الاجتماع رغم أنه أعلن مرات عدّة أنه لن يحضر أي جلسة تحمل عنواناً واحداً هو ملف المرفأ”. واللافت أن انفعال القاضي عبود ومغادرة مكتبه خير دليل على أن أزمة القضاء آخذة في الاتساع، لأن رئيس المجلس الذي يعتبر مفتاح الحلّ نفض يده من المساعي التي يقودها منذ وقت طويل.
الأجواء التي أعقبت رفع جلسة مجلس القضاء لعدم اكتمال النصاب، عززت فرضية عزل المحقق العدلي عن الملفّ، ونقلت مصادر مطلعة على أجواء عويدات، أن الأخير “لا يجد في قرار البيطار بتأجيل جلسات الاستجواب، خطوة إلى الوراء أو محاولة تهدئة طالما أنه متمسّك بادعاءاته”. وشددت لـ “هنا لبنان” على أن النائب العام التمييزي يعتبر أن الحلّ “يبدأ بتراجع البيطار عن الاجتهاد القانوني الذي وضعه وأتاح لنفسه العودة إلى التحقيق متجاهلاً عشرات دعاوى الردّ المقدمة ضدّه، وانتظار البتّ بهذه الدعاوى”. وسألت “أي حلّ يتحدث عنه طالما أن ادعاءاته قائمة؟ كيف يمكن التعامل مع قاضٍ يمعن بمخالفة القانون والدستور، وينصّب نفسه مرجعاً لملاحقة قضاة بخلاف القانون، واستدعاء قادة أمنيين من دون الحصول على إذن من الإدارات المختصة؟ هل يعقل أن يشرّع لنفسه محاكمة رئيس حكومة ووزراء ونوّاب، وهو يعلم أي مرجعية مخولة مساءلتهم؟”
في المقابل، يرفض المحقق العدلي إدراج تأجيل جلسات التحقيق في خانة “الصفقة أو التسوية”، وتؤكد مصادر مقربة من البيطار لـ “هنا لبنان” أن “لا تسوية على الملف، ولا يعتقدنّ أحد بأن ادّعاء عويدات عليه بـ “انتحال صفة”، والتهويل بتنفيذ مذكرة إحضار بحقه، سيحمله إلى التراجع”. وسخرت المصادر من مقولة إن البيطار صعد إلى الشجرة، وعليه أن يجد لنفسه وسيلة النزول عنها. وتقول إن المحقق العدلي “لم يطلع على الشجرة حتى ينزل عنها، إن تريثه وتأجيل جلسات التحقيق ينطلق من مسؤوليته بإزالة التشنج في ظلّ الأزمات التي تمرّ بها البلاد، لكن لا تراجع عن الادعاءات والجلسات”. وتشدد على أن البيطار “يطالب بأن يأخذ التحقيق مجراه في دعوى “انتحال صفة” المقامة ضدّه”. وتضيف “لا يستطيع أحد أن يهدد بتنفيذ مذكرة إحضار واعتقال قاضٍ يقوم بواجباته”. ولا يخفي بأن “الجيش اللبناني يتولى حماية المحقق العدلي إنفاذاً لقرار مجلس الدفاع الأعلى، الذي يضع عويدات ومدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا قراراته طالما أنهما أعضاء في هذا المجلس”، معتبرة أن البيطار “تجنّب إحراج المؤسسات الأمنية، لذلك لا مشكلة في تأجيل الجلسات لأسابيع إضافية، لكن التحقيق سيستكمل، والمذكرات التي سيصدرها ستنفّذ ولا مساومة عليها”.
أمام رفض أطراف الصراع التراجع خطوة واحدة، يبدو أن الحلول لن تأتي على يد وزير العدل الذي دخل طرفاً في هذا الصراع، ولن تبصر النور بقرارات مجلس القضاء المنقسم عمودياً والعاجز عن الاجتماع، ما يعني أن خروج القضاء من مأزقه، يبقى رهن الحلّ السياسي الذي يبدو متأخراً أيضاً، وإلى أن تتكون سلطة سياسية جديدة، يبدو أن القضاء ينتظر قدره.
مواضيع مماثلة للكاتب:
سجناء أنصفتهم الحرب! | توقيف “عميل” زوّد “الموساد” بمعلومات عن “الحزب” | وكلاء سلامة مرتاحون لمسار التحقيق.. رُبّ ضارّة نافعة |