السوريون خرجوا على دماء الحريري وعون عاد بها
انها دماء رفيق الحريري التي أشعلت ثورة الأرز غير المسبوقة في تاريخ لبنان، لكنها أيضاً سمحت بإبرام أكبر صفقة انتهازية بين عون وأعداء الأمس.
كتب أحمد عياش لـ “هنا لبنان”:
في السادس والعشرين من نيسان 2005، خرج جيش الوصاية السوري من لبنان مع الأجهزة الأمنيّة التابعة له، منهياً حقبة من التدخل استمرت 35 عاماً. وفي 7 أيار من العام نفسه، عاد العماد ميشال عون من منفاه الباريسي حيث أمضى 15 عاماً. وقد يبدو ظاهرياً، أن خروج قوات نظام الأسد من لبنان قد مهّد لعودة الجنرال المنفي بعد علاقات سيئة للغاية بين النظام وبين عون في حقبة الثمانينات من القرن الماضي. لكن فعلياً، كل هذيّن الحدثيّن ما كانا ليتمّا لولا الزلزال الكبير الذي أصاب لبنان، وعمت تردّداته المنطقة والعالم وذلك يوم 14 شباط 2005 عندما دوى انفجار هائل قرب فندق السان جورج في وسط بيروت، ما أدى إلى مصرع رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري وعشرات المواطنين بينهم الوزير السابق باسل فليحان الذي قضى نحبه متأثراً بحروق خلال مرافقته الحريري في السيارة نفسها التي دمرها الانفجار.
عندما بدا أن نظام بشار الأسد لم يعد قادِراً على البقاء في لبنان بعد التجمع الأكبر في تاريخ لبنان يوم 14 آذار، حيث رفع مئات الألوف من اللبنانيين شعار خروج جيش الوصاية السوري من لبنان، كان هناك من يعدّ لصفقة مع دمشق ومن ثم مع “حزب الله” لكي يعود الجنرال عون إلى لبنان.
الكثير الذي كتب على مفارقة المفارقات في تاريخ لبنان المعاصر، وكيف تحوّل أعداء الأمس إلى حلفاء اليوم بفعل دماء رفيق الحريري. واليوم هناك المزيد للكلام في المناسبة.
في شهادة للإعلامية رندة تقي الدين المقيمة في باريس، أنها عندما كانت في منزل رفيق الحريري بباريس يوم استشهاده قبل 18 عاماً، وكان قد سبقها الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى هناك، قال لها الأخير عن وجود العماد ميشال عون في الوقت ذاته بمنزل الحريري: “لا تذكري وجود عون في المنزل خلال وجودي، وإذا ما نشر مثل هذا الخبر سأصدر نفياً لتكذيبه.” ومن دون أن تعطي الإعلامية اللبنانية توضيحاً لموقف الرئيس شيراك، الذي كان من أهم أصدقاء الحريري في الغرب، تبيّن أن سيد الإليزيه في ذلك الوقت أدرك حجم الرياء الذي لا تضيع انطوى عليه سلوك الجنرال المنفي، والذي كان خصماً شرساً لرئيس الوزراء اللبناني الراحل على مدى أعوام طويلة. وهناك سجلّ حافل من المواقف العدائية التي أعلنها عون ضدّ الحريري عندما كان الأخير رئيساً للحكومة في لبنان على مدى عقد تقريباً.
كيف كان عون الخصم اللدود لنظام الأسد في فترة توليه رئاسة الحكومة العسكرية عام 1988؟
في مذكرات سفير الاتحاد السوفياتي في لبنان في تلك المرحلة فاسيلي كولوتوشا الصادرة عام 2020 ما يضيء على سلوك الجنرال. فكتب السفير يقول: “اندفع الجنرال إلى أخطر مغامرة له وهي إعلان الحرب من أجل تحرير لبنان من الاحتلال السوري.
وفي 30 آذار عام 1989 وجه ميشال عون خطاباً رسمياً إلى الرئيس السوري حافظ الأسد، طالب فيه رسمياً بسحب القوات السورية من الأراضي اللبنانية. كما طلب الجنرال من اللاعبين الخارجيين على الساحة اللبنانية، أن يؤكدوا عملياً تأييدهم لمبدأ سيادة لبنان، ودعمهم لكفاحه ضد الوجود السوري. وقام الجنرال بتعزيز خطواته السياسية الديبلوماسية بـ (تسخين) خطوط التماس للمنطقة المسيحية مع المناطق التي تواجدت فيها القوات السورية وتشكيلات حلفائها اللبنانيين. ولم يستغرق ردّ فعل دمشق وقتاً طويلاً. وأصيب الجنرال بالذهول ليس فقط من جراء إنفجارات القذائف الموجهة بالمدفعية السورية إلى قصر الرئاسة في بعبدا، بل وأيضاً من الموقف الذي اتخذه الزعماء السياسيون في المنطقة المسيحية، ومن الردود التي تلقاها من واشنطن رداً على طلباته منها هي وباريس ولندن وموسكو.
الفرنسيون اهتموا وتحركوا لخشيتهم من عواقب التصرفات الفردية غير المدروسة للجنرال كما أخبرني بذلك زميلي سفير فرنسا رينيه الا. أما الإنكليز فقد حاولوا في الوقت نفسه إقناعه وتنبيهه كما حدثني بالتفصيل صديقي السفير آلان رامسي. لكن الضربة الرئيسية في المجابهة مع عون تلقاها السفير الأميركي مكارثي عندما اتهم الأميركيين بأنهم باعوا لبنان للمحتلين السوريين.
لكن آخر ضربات الحرب اللبنانية المستمرة بلا توقف دوت في تشرين الأول 1990 عندما قصفت مدفعية الجيش السوري القصر الرئاسي واخرجت منه العماد ميشال عون إلى المنفى في فرنسا.”
وفي ختام ما ذكره السفير السوفياتي حول الجنرال: “من سخرية القدر أو عجائب السياسة اللبنانية في 31 تشرين الأول عام 2016 ، بعد 46 محاولة على مدى عامين ونصف العام من دورات التصويت العقيمة بلا نتائج، إنتخب نواب البرلمان ميشال عون لمنصب رئيس لبنان”.
هكذا خرج عون من لبنان بقذائف النظام السوري، لكن عاد إلى لبنان بمباركة هذا النظام. وقد أفرد المحامي كريم بقرادوني صفحات في كتابه “صدمة وصمود” عام 2009 كاشفًا بالوثائق والتفاصيل الأسباب التي سمحت للجنرال المنفي أن يعود إلى لبنان، وأبرزها التسليم بنفوذ “حزب الله”. ويروي بقرادوني كيف ولدت “مبادرة لعودة الجنرال ميشال عون” في أوائل عام 2005، وقبل استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط من ذلك العام. وما قاله بقرادوني عن هذه المبادرة في الكتاب: “سلمت نصّ المبادرة إلى إميل إميل لحود ابن الرئيس لحود (والأخير كان وقتذاك لا يزال رئيساً للجمهورية) الذي حملها إلى دمشق وعرضها على صديقه ماهر الأسد الذي استوضح الملابسات والخلفيات، واستمهل إلى حين عودة شقيقه من الخارج. وقبل أن يصل لحود إلى بيروت، اتصل به ماهر ليخبره أنّ الرئيس بشار الأسد عاد لتوّه ووافق على المبادرة “شرط أن يكون “حزب الله” شريكاً في العملية، وأن تحصل بإشراف مباشر من الرئيس لحود”. لكن قوة الدفع كي يعود الجنرال من منفاه جاءت بعد زلزال 14 شباط 2005.
إنها دماء رفيق الحريري التي أشعلت ثورة الأرز غير المسبوقة في تاريخ لبنان، لكنها أيضاً سمحت لإبرام أكبر صفقة انتهازية بين عون وأعداء الأمس، قد تكون أيضاً غير مسبوقة في تاريخ هذا الوطن.
مواضيع مماثلة للكاتب:
تفاؤل بري وابتسامة لاريجاني | “مرشد” لبنان و”بطريرك” إيران | تفليسة “تفاهم” مار مخايل في عملية البترون |