بين العنان والقعر
بين معاوية وأبي لؤلؤة، ضاع حق الكائن البشري في الاختيار وفي إعمال الفكر والمعرفة للوصول إلى الحقيقة، ووُضعت الفتنة سدًّا في وجه الأسئلة الأبدية: ماذا ومن ومتى وأين ولماذا، وعطلت العقل. وبدل إخراج الناس من الجهل، يُدخلون في أسر العصبية الدينية والمذهبية.
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
ربما بات ملحًّا، وبلا مراوغة، أن يتفق الجميع على تعريف ما يسمى بالفتنة، بعدما تحوّلت أداة تهديد ووعيد تحديداً في كل مجال يحمل مسحة نقاش ديني، وحتى غير ديني، وعادة ما يكون من يشير إليها مهدداً بوقوعها، وليس ناصحاً بالتعاون على وأدها، ويكاد يبدي استعداده لتخريب البصرة، إذا لم يستجب الآخر وينصع له، شخصاً، أو دولة، أو جماعة.
مثال راهن، ما يثار عن جذوة شقاق إسلامي، في المنطقة، ومنها لبنان، أطلقها ترويج لمسلسل “معاوية” الذي سيعرض في شهر رمضان المبارك، وفق ما أعلنت مجموعة قنوات “أم بي سي” السعودية المنتجة، وهو مسلسل تاريخي يتحدث عن شخصية الخليفة معاوية بن أبي سفيان. وبرغم أن فحوى المسلسل لم تُعرف، بعد، بدقائقها، أو المدى الذي سيذهب إليه في تناول أحداث وشخصية يحيط بها الكثير من الجدل وتختلف فيها الآراء، فإن التجاذبات تستعر في شأنه، وفي تقييم مساره إلى الحكم، وتحديداً وقائع ما يعرف بـ “الفتنة الكبرى”، التي يصعب إيجاز تفاصيلها والتطرق إلى أسبابها الظاهرة والخفية.
ينظر إلى معاوية كأحد أهم الشخصيات الجدلية في تاريخ السجالات الإسلامية، وبرغم أنّ أعمالاً عديدة جسدت سير شخصيات لا تحظى باتفاق المذهبين الرئيسيين في الإسلام، مثل مسلسل “عمر بن الخطاب”، إلا أنّ شخصية “معاوية” تعد محل خلاف حتى بين بعض أئمة السنة باعتباره أوّل من أبدل نظام الخلافة الإسلامي بنظام وراثي. لا يكاد الجدل حول المسلسل يخفت قليلاً حتى يعود للواجهة عبر تغريدات لساسة ورجال دين تدعو القائمين على القناة إلى التراجع عن عرضه لأنه قد “يجرح مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها”، وفق ما نقل عن السيد مقتدى الصدر.
ليس من عادة هذه الزاوية متابعة أيّ شأن ديني، لا سلباً ولا إيجاباً، كي لا يقال “إنّه يهرف بما لا يعرف”، لكنّ المصادفة جمعت بين حدثين متعاكسين، يستحقان المتابعة، أحدهما، يحث على إعمال الفكر والجهد للمستقبل، والثاني يسلّم أمره للماضي، وينجذب إليه، ويرتبط به بالتسليم، لا بالمعرفة.
وفي ما يبدو سعياً إلى تجنب الإتهام بالإنحياز المذهبي، أو اللاتوازن، أدان المرجع الديني العراقي تنفيذ عمل سينمائي يمتدح “شجاعة أبو لؤلؤة”، قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، ووصف كلاهما بالباطل والمثير للفتنة، وأدى موقفه إلى وقف بثّه.
وأضاف قائلا: إنّ كلا المسلسلين باطل ومثير للفتنة، فمعاوية لا يمثل السنة ولا أبو لؤلؤة يمثل الشيعة، داعياً إلى منع عرض المسلسلين. وقد التزمت وزارة الإعلام العراقية بمنع بثّ الاثنين، وبعدم بث “أي أعمال فنية تتناول موضوعات تاريخية جدلية”، وفي تعليل متداول للقرار، أنّ العملين فتنويين يعيدان الخلافات بين المسلمين بالتطرق إلى حقبة حرجة من التاريخ الإسلامي. أي أنّ في العماء والجهل سلامة الأمة وسلامها، وفي المقابل، تسقط في قرار الفتنة، وفي الخطاب الشعبوي الذي ينطلي على الجهلة، ممن ينتقدون حتى قبل المشاهدة.
بين معاوية وأبي لؤلؤة، ضاع حق الكائن البشري في الإختيار وفي إعمال الفكر والمعرفة للوصول إلى الحقيقة، ووُضعت الفتنة سدًّا في وجه الأسئلة الأبدية: ماذا ومن ومتى وأين ولماذا، وعطلت العقل. وبدل إخراج الناس من الجهل، يُدخلون في أسر العصبية الدينية والمذهبية.
النقاش في الفتنة المزعومة يتسلل إلى حوارات لبنانية، يتحدثون عن تجنبها بكلام تحذيري، برغم معرفتهم بأن من يملك السلاح وحده قادر على إيقاظها، وهو أثبت ذلك كلّما تسنّى له تضافر الظروف التي تخدم ولي أمره، وهو يعرف أن تقاطعات اليوم غير مواتية لهما، ويذكر أنّ جمهوره لم يقصّر، في أوج حرب تموز مع إسرائيل 2006، يوم تخطى التضامن الوطني قمته، وفي استعراضات القوة، في إيقاظ الفتنة، وتشهد على ذلك غزوة 7 أيار2008 التي كانت قمة الفتن المحضّرة.
في كل ما سبق انشداد إلى ما كان قبل نحو 1400 سنة، وفيما من الناس من ينظر في قعر الماضي، كان شاب إماراتي ينقل طموح العرب المتنورين إلى محطة الفضاء الدولية، من ضمن 4 أفراد من بينهم رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي في أطول مهمة فضائية في تاريخ العرب، مدتها 6 أشهر. فهناك من يشق طموحه العنان، وهناك من يستسيغ الركون في القعر.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |