سلاح “الميثاقية” الذي ابتدعه بري ينقلب عليه
قامت هذه الميثاقية على التنوع الطائفي في الدولة والمؤسسات بغض النظر عن اللون السياسي أو الانتماء الحزبي لممثليه، علماً أنّ التمثيل لم يكن يومها طائفيًّا، كما هو حاصل اليوم، وإنّما سياسيًّا وطنيًّا عابرًا للطوائف..
كتب سعد كيوان لـ “هنا لبنان”:
حكاية نبيه بري رئيس حركة أمل ورئيس المجلس النيابي مع “الميثاقية” بدأت قبل أقلّ من عشرين سنة بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري عام 2005. مصطلح الميثاق دخل قاموس التكوين التأسيسي للكيانية اللبنانية عندما اتفق بشارة الخوري ورياض الصلح عشية الاستقلال سنة 1943 على قيام دولة لبنان السيد على ثنائية مارونية-سنية تجسد العيش المشترك الإسلامي-المسيحي، وترجم برئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الحكومة للسنة ثم شمل رئاسة مجلس النواب للشيعة. وقد عرف هذا التفاهم بـ “ميثاق 1943” وهو غير مكتوب ولا يتضمّنه الدستور اللبناني. وهو عمليًّا عبارة عن نصاب يحترم التعددية التي تجسدها الجماعات الطائفية التي يتكون منها لبنان، والتي حظيت كلّ مذاهبها بالتمثيل في مجلس النواب. كانت محاولةً جريئةً، لا تخلو من المغامرة، للمزاوجة والتوفيق بين قيام الدولة والحفاظ على التعددية والتنوع. قامت هذه الميثاقية إذاً على التنوع الطائفي في الدولة والمؤسسات بغض النظر عن اللون السياسي أو الانتماء الحزبي لممثليه، علماً أنّ التمثيل لم يكن يومها طائفيًّا، كما هو حاصل اليوم، وإنّما سياسيًّا وطنيًّا عابرًا للطوائف، عبّرت عنه الكتلة الدستورية التي كان يتزعّمها الخوري والكتلة الوطنية التي تزعّمها إميل إدّه. ولم يحصل أن ادّعى أحدٌ من سياسيي ونوّاب تلك الكتل بأنّه يمثّل طائفته فقط أو أنّ التمثيل الطائفي ينحصر به وحده!
عام 1992 مع انتهاء الحرب والتوقيع على “اتفاق الطائف” الذي “لزّم” تطبيقه للنظام السوري، تربّع بري على كرسي رئاسة المجلس مكان حسين الحسيني واستمرّ في الوقت عينه متربّعاً على كرسيّ قيادة حركة أمل التي كان قد ورثها أيضاً من الحسيني. وعلى مدى نحو خمس عشرة سنة كانت الإدارة السورية تؤمن غطاءً سياسيًّا وسلطويًّا لبرّي وحلفائه داخل المجلس وخارجه. كما ساد أيضاً نظام الترويكا الذي وفر اليد الطولى لثلاثي السلطة (الرئاسات الثلاث) في المحاصصة وتقاسم النفوذ والمغانم برعاية النظام السوري، إلى أن قلب اغتيال الحريري المعادلات والتوازنات رأساً على عقب، فأجبر بشار الأسد على سحب جيشه من لبنان، ولم يعد المجلس النيابي خاتماً في يد برّي بعد أن خسر المحور السوري-الإيراني الانتخابات وأصبحت الأكثرية في يد قوى 14 آذار. وعند أوّل استحقاق للتّصويت على قرار الطلب إلى مجلس الأمن تشكيل محكمة دولية للتحقيق في جريمة اغتيال الحريري سحب بري من قبّعته بدعة “الميثاقية” لتغطية انسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة من أجل تعطيل عملية التصويت بحجة أنّ الحكومة تفقد ميثاقيّتها ومشروعيّتها بغياب مكوّنٍ طائفيٍّ أساسيٍّ عن مجلس الوزراء. وهو أراد بذلك أن يحصر التمثيل الشيعي في يد الثنائي، ولكن رئيس الحكومة يومها فؤاد السنيورة لم يخضع لهذا الابتزاز رافضاً الاستقالة، واستمرّ في السراي الحكومي رغم محاصرة “حزب الله” وأمل له. وما لم يفعله السنيورة يومها أي تعيين بدائل عن الوزراء الشيعة، الذين يمثلون أحزابهم فقط وليس الطائفة بأكملها، فعله في الحكومة التي تلت عام 2008 بضم وزير شيعي لا ينتمي إلى “الثنائي” لكسر احتكار التمثيل الشيعي وحصره ببري ونصرالله. وقد حاول بري لاحقاً تعميم هذا السلوك، مرّة مع السّنّة رافضاً عقد جلسة أو إقرار قوانين بغياب نواب “المستقبل” وأخرى مع المسيحيين مستفيداً من علاقة التيار بـ “حزب الله” لكي يثبت بدعة “الميثاقية” عبر حصر التمثيل الطائفي بفريق معين، وليعطيها مشروعية دستورية.
غير أنّ هذه اللعبة في لحظة معينة انقلبت على رئيس المجلس عندما سعى إلى تكريس بدعة أخرى اسمها “تشريع الضرورة” في ظلّ الشغور الرئاسي. فقد أصرّ برّي على التشريع وإقرار قوانين رغم أنّ الدستور لا يتيح ذلك (المادة 74) عندما يكون ملزماً باستحقاق انتخاب رئيس الجمهورية إذ عليه أن لا يفعل أيّ شيء آخر غير الانتخاب. وعندما حاول بري تصدى له الخصمان اللدودان “القوات” و”التيار” فارضين عليه الالتزام بـ “الميثاقية” التي ابتدعها ولكن المسيحية هذه المرة!
مواضيع مماثلة للكاتب:
إيران تفاوض.. فمن يوقع عن لبنان؟ | برّي يفاوض.. أين المعارضون؟! | “الحزب” السلاح الإيراني الأكثر فعالية للتفاوض |