إشكالية الطاقة في لبنان وإعادة تشكيل المشهد الإقتصادي السياسي
كتب زاكاري كويلر في The Century Foundation:
يشهد قطاع الطاقة والاقتصاد السياسي في لبنان تغييراً كبيراً بفعل التيارات المختلفة التي تؤثر فيه، فبينما يغرق وسط بيروت في الظلام بسبب انهيار قطاع الكهرباء، يحاول البعض إنعاش الشبكة التابعة لشركة كهرباء لبنان بواسطة الغاز الطبيعي المستورد من مصر أو من البحر الأبيض المتوسط. وينتهز آخرون الفرصة لاستبدال المحروقات بشبكة طاقة متجددة لامركزية.
وفي كل الأحوال، يحيط بالمشهد العام الكثير من الغموض في ظل التدافع المستمر من أجل المحروقات والكهرباء والأرباح، بالتزامن مع المناقشات المستمرة بين الطبقة السياسية والجهات المانحة وخبراء الطاقة، حول مستقبل القطاع.
ويرتبط ملف الكهرباء بشكل كبير بأي محاولة لفهم وحل أزمة لبنان، وهذا ما يظهر من خلال تعريف منظمة “هيومن رايتس ووتش” مؤخرًا الكهرباء كحق إنساني حرم منه سكان لبنان، كما ركزت المساعدات الدولية بشكل مباشر وخاص على شبكة الكهرباء. وتتجلى أهمية القطاع بالنسبة للفاعلين اللبنانيين والدوليين في المكانة المخصصة له في برنامج الإصلاح لحكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي، وفي الاتفاقية بين لبنان وصندوق النقد الدولي، وفي محاولة إدارة جو بايدن تأمين دعم البنك الدولي وتسهيل الإعفاء لخطة إحياء خط الغاز العربي بين مصر ولبنان، من العقوبات بهدف تزويد محطات الكهرباء اللبنانية بالمحروقات.
هذا التركيز على الشبكة الكهربائية ضروري، نظراً إلى مركزية قطاع الطاقة ودوره في الانتعاش الاقتصادي، ولأن هذا القطاع شكل على مر الزمن مصدر استنزاف كبير لخزينة الدولة ومكمناً للهدر.
ولا بد لأي سياسة جادة تجاه قطاع الطاقة في لبنان أن تتجاوز الاعتبارات التقنية البحتة لتركز على دور هذا القطاع في إعادة تشكيل توزيع الثروة والسلطة السياسية.
وبعيدًا عن الطبقة السياسية اللبنانية ومفاوضاتها مع المؤسسات الدولية والحكومات الأجنبية، تعمل فئات متعددة على ملء الفجوة الكبيرة التي خلفتها الدولة وتحديد ملامح التغيير في مجال الكهرباء في لبنان.
وتستحق ثلاث من هذه الفئات تركيزاً خاصاً: مستوردو المحروقات الذين يزودون مولدات الكهرباء الخاصة في لبنان بالمازوت، “المافيا” التي تمتلك تلك المولدات، وأخيراً الأفراد والمجموعات القادرة على توفير الطاقة لنفسها. وبغض النظر عن الحل التكنوقراطي الذي قد يتم التوصل إليه بين لبنان والمانحين الدوليين، ستستمر هذه المجموعات في التأثير على شبكة الكهرباء بعد الأزمة، وعلى الأرجح بطرق تتعارض مع الأهداف المعلنة والتي تتمحور حول ضمان حصول الجميع بشكل شامل وعادل على الكهرباء.
“بارونات المحروقات”
تهيمن مجموعة صغيرة من الشركات المستوردة للمحروقات على توزيعها في لبنان. وشكلت هذه الشركات تكتلاً غير رسمي يسعى لضمان السيطرة على إمدادات المحروقات في البلاد والإستفادة من دعم الدولة لأسعارها من أجل خنق المنافسة والسيطرة على السوق ورفع هوامش الربح. ويرتبط مستوردو المحروقات الرئيسيين بشكل مباشر بالزعماء السياسيين الذين يستفيدون بدورهم من هذه الشركات.
“مافيا المولدات”
يحصل معظم اللبنانيون على الكهرباء من خلال مولدات المازوت العائدة للقطاع الخاص والتي يغطي دخانها سماء بيروت 24 ساعة في اليوم. وبات مالكو المولدات في البلاد، والذين يقدر عددهم بين 3000 و 3500 فرد، من الجهات الفاعلة والبالغة الأهمية في الاقتصاد السياسي للدولة. وبينما كان سكان بيروت يحصلون قبل الأزمة، على 21 ساعة من الكهرباء التي توفرها الدولة يوميًا، ويعتمدون على مولدات القطاع الخاص لتوفير الكهرباء في الساعات الثلاثة المتبقية، انقلب الوضع بعد الأزمة وباتت الدولة هي التي توفر بالكاد ثلاث ساعات، فزاد الاعتماد على المصادر البديلة بشكل دراماتيكي.
واستغل مشغلو المولدات الخاصة الفرصة لملء الفجوة وبيع الكهرباء لمن يستطيع تحمل تكلفتها. بالتالي، الأغنياء فقط هم من يشترون بالفعل ما يكفي من الكهرباء لتزويد منازلهم بالطاقة على مدار الساعة. وتتمتع المجموعة الصغيرة المزودة بسلطة سياسية واحتكارية كبيرة، حيث قد تعتمد العديد من الأحياء والمباني على مولد واحد فقط. وعلى الرغم من محاولات الدولة تنظيم معدل الربح لهذه العمليات غير القانونية، تبقى هذه الاحتكارات الصغيرة غير منظمة فعليًا، بفعل روابط أصحاب المولدات مع عناصر قوية داخل الطبقة السياسية، الأمر الذي يمنحهم نفوذاً إضافياً.
في ظل هذه الظروف القاسية، بادر بعض اللبنانيين لوضع خطتهم الخاصة، فاستخدمت بعض البلديات منذ فترة طويلة إمدادات الطاقة الخاصة بها كما تمكنت شركة كهرباء زحلة على سبيل المثال، من توفير الكهرباء لمدة 24 ساعة للمدينة منذ العام 2015 حتى أزمة المحروقات في صيف 2021. لكنها اضطرت لتقنين الكهرباء بسبب الانقطاعات الدورية في الإمدادات. كما بدأت المنظمات المحلية والدولية مؤخرًا بالترويج لمشاريع الطاقة الشمسية على مستوى المجتمع المحلي. وتمتلك هذه المشاريع القدرة على استبدال كل من شبكة الدولة المنهارة وشبكة مشغلي المولدات.
ولكن لا يمتلك الجميع إمكانية الوصول لإمدادات الطاقة هذه خصوصا في ظل التكاليف المرتفعة. وتخاطر التفاوتات بين اللبنانيين بتسريع تفكك البلاد إلى إقطاعيات وترسيخ التفاوت الاقتصادي الحاد بالفعل. ويتطلب ذلك من كل الجهات المحلية والدولية المعنية، إبقاء مسألة الطاقة في لبنان تحت المجهر، وتحديداً بالنظر للدور الذي يلعبه أصحاب المصالح وللمشهد الاقتصادي السياسي المتغير بسرعة. وتعيش الغالبية العظمى من السكان في لبنان بالفعل، حالة انقسام بين تعثر الدولة وكارتيلات المحروقات مع استمرار التدافع لتأمين الكهرباء. ويجسد المستنقع الحالي الوضع في لبنان والمستقبل المحتمل للقطاع حيث تستفيد بعض الجماعات من التعفّن داخل الدولة ولا توفر جهدا لتعميق الانقسام في البلاد.
مواضيع مماثلة للكاتب:
غارات صور.. ماذا كشف الجيش الإسرائيلي عن وحدة “عزيز”؟ | “غوغل” يحتفل باستقلال لبنان | إصابة 4 جنود إيطاليين في “اليونيفيل” جنوبي لبنان |