عدالة دولية بلا معايير
كثيرون في لبنان تمتلكهم اليوم الغبطة في رؤية رياض سلامة ملاحقاً لبنانياً ومطارداً دولياً، لكنّهم مع نشوة انتقامهم يتجاهلون القادم على لبنان في المرحلة المقبلة، قد يجدون أنفسهم قريباً مكشوفين أمام قضاء أجنبي أسس “وصايته” الطويلة وربما الدائمة على هذا البلد، معتقدين أن تصفية الحساب مع سلامة والنظام المصرفي ستعيد الحقوق للمودعين
كتب يوسف دياب لـ “هنا لبنان”:
مخطئ من يعتقد أن الهجمة القضائية الأوروبية على لبنان محصورة بملفّ حاكم البنك المركزي رياض سلامة، أو نابعة من غيرة تلك الدول على مصالح الشعب اللبناني، والكشف عن أوكار الفساد ومحاسبة من أهدر المال العام وتسبب بإفقاره، الحقيقة أبعد من هذا وذاك، هي مؤشر واضح على أنّ لبنان أضحى تحت “وصاية قضائية” جديدة، لم تتضح بعد كيفية التعاطي معها في مرحلة تبدو معقّدة وشائكة.
لا أحد يرغب بطمس حقائق يجب أن يعرفها اللبنانيون، لكن لا أحد يشكّ بأن الاستباحة القضائية الأجنبية، لم تكن لتحصل لولا تقصير القضاء اللبناني وانكفائه عن القيام بدوره، فلو قامت النيابة العامة المالية بمهامها في المحاسبة والمساءلة لما رأينا الوفود القضائية تسرح وتمرح في بيروت، ولو كانت النيابة العامة التمييزية أخذت المبادرة كرئيسة للضابطة العدلية في لبنان، لما شاهدنا المذكرات الدولية العابرة للقارات تضع العدالة اللبنانية أمام الامتحان الأصعب وربما الأسوأ، لجهة اختبار جديتها في التعاون وتبادل المعلومات وتنفيذ الاستنابات.
لم تكد الوفود الأوروبية تنهي مهمتها في بيروت، بعد أن استمعت إلى كبار المسؤولين الماليين وعلى رأسهم وزير المال وحاكم البنك المركزي وأصحاب مصارف، وتعود إلى بلادها حتى سارعت إلى اتخاذ إجراءات أحرجت القضاء اللبناني، وأجبرته على التعامل مع قراراتها تحت طائلة تصنيفه ضمن خانة “غير المتعاون” بالتزامن مع إشهار سيف العقوبات الذي لوّحت به وفود بعض الدول المعنية بالملفات المالية، خصوصاً الفريق الألماني الذي مارس أقسى أنواع الضغوطات وأجبر النيابة العامة في بيروت على تزويده بنسخة عن الملفّ اللبناني، تحت ذريعة الاستفادة من مستندات تعزز مهمته في لبنان، قبل أن تسمح النيابة العامة التمييزية للقاضية الفرنسية أود بوريزي الحصول على مثل هذه المستندات وأكثر في الجولة الأخيرة من مهمتها.
جملة واحدة قالها مصدر رسمي وهو يتابع التطورات الأخيرة “لو كان رياض سلامة رئيس مليشيا مسلّحة، هل كان القضاء اللبناني تجرّأ على استدعائه؟ وهل كان القضاء الأوروبي امتلك شجاعة الاستماع إليه كشاهد؟”
كثيرون في لبنان تمتلكهم اليوم الغبطة في رؤية رياض سلامة ملاحقاً لبنانياً ومطارداً دولياً، لكنّهم مع نشوة انتقامهم يتجاهلون القادم على لبنان في المرحلة المقبلة، قد يجدون أنفسهم قريباً مكشوفين أمام قضاء أجنبي أسس “وصايته” الطويلة وربما الدائمة على هذا البلد، معتقدين أن تصفية الحساب مع سلامة والنظام المصرفي ستعيد الحقوق للمودعين، أو متناسين عن قصدٍ أو غير قصد أن الدول الغربية لا تسعى لإحقاق الحقّ وترسيخ العدالة في بلد يغرق شعبه بالأزمات، بل غايتها أولاً وأخيراً وضع اليد على الأصول اللبنانية لديها، وتجييرها لصالح مؤسساتها وشعوبها لا أكثر ولا أقلّ.
دائماً ما تسعى الدول إلى تحقيق مصالحها على حساب الشعوب المقهورة والمستضعفة، فمثلاً الغيرة على الملفات المالية التي تدغدغ عواطف الكثيرين، لا تنسحب على قضايا أخرى مثل جريمة تفجير مرفأ بيروت على سبيل المثال، وهنا يبرز السؤال، لماذا غابت فرنسا أو غيبت اهتمامها عن هذه القضية، رغم أنها أرسلت وفداً قضائياً قبل ثلاثة أشهر وعبّرت عن استغرابها لتجميد التحقيقات في الملفّ منذ أكثر من عام، علماً أن فرنسا سقط لها ضحايا بانفجار المرفأ؟
الوقائع تفيد بالتقاء مصالح فرنسا وغيرها من الدول، مع مصلحة القوى والأحزاب التي كبّلت المحقق العدلي طارق البيطار، وأدخلت التحقيق في نفق يصعب الخروج منه، ثمة أسئلة تتزاحم في هذا المشهد وكأن هناك من يحجب الأجوبة عليها، أين الضغوط الدولية على معطلي تحقيقات المرفأ؟ أين حقوق الضحايا وأهلهم خصوصاً الأجانب منهم؟ طالما أن فرنسا معنية بإنقاذ لبنان لماذا ترفض مع غيرها من الدول تزويد لبنان بصور الأقمار الاصطناعية لمعرفة كيفية حصول الانفجار ومن تسبب به؟ لماذا لم تزود باريس القضاء اللبناني بالتقرير الفني بنتيجة عمل الخبراء الذين عاينوا المرفأ بعد الحادث رغم أنهم وعدوا بتزويد المحقق به بعد شهرين من انتهاء مهمتهم في لبنان؟
ثمة حقائق يعيشها لبنان اليوم، تستدعي تذكير المعنيين بالملفات المالية، بأن أزمة لبنان المالية لا تقف عند حدود مبلغ 300 مليون دولار، أي كامل حسابات وممتلكات رياض سلامة في الخارج، بل باختلاس وسرقة وهدر ما يزيد عن 200 مليار دولار سرقتها منظومة الفساد في لبنان، فهل تتجرأ الدول الأوروبية على الدخول في دهاليزها؟ هل يغيب عن بال أحد أن أموال الشعب اللبناني المنهوبة موجودة بحسابات المسؤولين اللبنانيين بمصارف الدول التي تطارد رياض سلامة والمقربين منه؟ بانتظار جلاء الغموض الذي يلفّ سياسات هذه الدول وإجراءاتها سنبقى أمام عدالة عرجاء لا تقتصّ من الظالم ولا تنصر المظلوم.
مواضيع مماثلة للكاتب:
سجناء أنصفتهم الحرب! | توقيف “عميل” زوّد “الموساد” بمعلومات عن “الحزب” | وكلاء سلامة مرتاحون لمسار التحقيق.. رُبّ ضارّة نافعة |