بين أزمة الكهرباء وغياب التمويل الصناعة اللبنانيّة ضحيّة.. فما الحلّ؟
تحتاج الصناعة في لبنان إلى التركيز على قطاعات رئيسية قابلة لتحقيق الربح ولديها إمكانية معقولة للتصدير. ويُمكن المباشرة بذلك عبر معاينة مساحة المنتج ومحاولة رفع مستوى تعقيد المنتجات المصنّعة في لبنان
كتبت باولا عطية لـ “هنا لبنان”:
يرزح لبنان تحت سلسلة من المصائب المتتالية، منذ العام 2019، فبدءًا من ثورة 17 تشرين التي افتتحت الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة، لتأتي بعدها جائحة كورونا في شباط 2020، فانفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، ثم ارتدادات الحرب الروسيّة الأوكرانيّة على الاقتصاد العالمي، ما انعكس سلباً على إقتصاد لبنان أيضاً. هذه الأزمات طالت جميع القطاعات الاقتصاديّة وعلى رأسها القطاع الصناعي.
حيث عطّلت الثورة حركة شحن ونقل السلع محليّة الصنع من المصانع وإلى المتاجر، ومن المصانع وإلى الأسواق الخارجيّة، على مدى أكثر من 6 أشهر.
أَمّا جائحة كورونا فأدّت إلى انخفاض كبير في أنشطة القطاع الخاص اللبناني ما انعكس تراجعاً كبيراً في كل من الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات الضريبية فقد سجل الاستيراد من شهر شباط 2020 إلى 31 أيار 2020 نحو 3.1 مليار دولار بانخفاضٍ بنسبة 56% عن العام 2019. أما الصادرات فبلغت قيمتها مليار دولار من شباط إلى أواخر أيار بانخفاضٍ مقداره 17% عن العام 2019. فيما انخفضت مبيعات القطاع الخاص بنسبة 45 في المائة مقارنة بعام 2019، كما أقفلت المصانع والمؤسسات الكبيرة والصغيرة أبوابها، ما أعاق حركة التجارة الدولية وتوقّف سلاسل التوريد العالمية، ما ساهم في تدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، وافتقدت الفئات الضعيفة والمهمشة أدنى مقومات الحياة الكريمة، وزادت نسبة الفقر والجوع والمرض.
كما أن لجائحة كورونا تأثيرها في الاستثمارات الوطنية الأجنبية، وهي المحفّز الرئيسي والأساسي لخلق فرص عمل جديدة، فاتّجهت المؤشرات نحو انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي بشكلٍ حاد بسبب أزمة فيروس كورونا بنسبة ٣٠٪ على الأقل في العام 2020. كما أدى الوباء إلى انخفاض الطلب على العمالة بدوام كامل في المشاريع متناهية الصغر والصغيرة، التي توظف غالبية الفئات الفقيرة والضعيفة.
وجاء انفجار بيروت ليقضي على ما تبقى من آمال الصناعيين، معطّلاً حركة الاستيراد والتصدير. فيما الحرب الروسيّة الأوكرانيّة أدّت إلى رفع مستوى التضخّم عالمياً، ما طال معظم أسعار المواد المستوردة من الخارج، والتي تدخل في صلب الصناعات اللبنانيّة، فرفعت بالتالي كلفة التصنيع المحلي. وبحسب الأرقام التي نشرها البنك الدولي في نيسان 2023، يحتلّ لبنان المرتبة الأولى بين الدول العشر الأكثر تضرراً من تضخم أسعار الغذاء، حيث بلغ معدل التضخّم الاسمي 261%، أي ضعف معدل التضخّم في زيمبابوي التي تحلّ في المرتبة الثانية عالمياً.
وكان قد سلّط مقال نشره المعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية في أيار 2022 الضوء على هشاشة لبنان بسبب اعتماده الشديد على الواردات لتلبية احتياجاته الغذائية، التي ينتج ثلثها محلياً فقط.
فأيّ حظوظ بالصمود تملك الصناعة اللبنانيّة اليوم؟ وما أبرز التحديات التي يواجهها الصناعيين؟
في هذا الإطار يقول رئيس نقابة أصحاب الصناعات الغذائية، منير البساط، في حديثه لموقع “هنا لبنان”، أنّ “القطاع الصناعي في لبنان يحاول الصمود بصعوبة. حيث أنّ المشاكل التي يعانيها لا تعدّ ولا تحصى”.
وفي قائمة هذه المشاكل يذكر البساط “كلفة الإنتاج وتحديداً الكلفة الباهظة للطاقة. حيث لا يمكن لأيّ صناعة في العالم، أن تكبر وتتوسع إذا كانت هي التي تنتج كهرباءها. حيث أنّ كلفة هذه الأخيرة مرتفعة جداً مقارنة بالدول الأخرى التي يتنافس معها لبنان بالخارج أو بالداخل. فسعر الكيلووات الواحد يبدأ من 35 سنت، في حال كان المولّد الذي يستخدمه المصنع جديداً، مقابل 4 سنت لكلفة الكهرباء في المصانع المنافسة في دول الخارج، وتصل كحدّ أقصى إلى 9 سنت. فيما بعض الصناعيين الصغار لا يملكون مولّدات خاصّة من الأساس، وهؤلاء ينصاعون لفواتير المولّدات الباهظة. أمّا تسعيرة كهرباء لبنان الخاصّة بالصناعيين فهي 27 سنت بالاضافة إلى كلفة الرسوم الثابتة الخياليّة، ما جعل العديد من الصناعيين يلجأون إلى الاستغناء عن الساعات”.
والمشكلة الأساسيّة الثانية التي يعاني منها القطاع الصناعي في لبنان، بحسب البساط، هي “غياب التمويل، حيث تحتاج الصناعة اللبنانيّة للصمود في وجه الأزمة إلى عمليات تمويل من الخارج، لأنّ الصناعي لا يستطيع أن يموّل مصنعه من أمواله الخاصّة، وبالتالي لن يتمكّن الصناعيّ من التوسّع في عمله”.
ويضيف بأن هناك عوائق أخرى تعرقل عمل الصناعيين في لبنان وفي مقدّمتها “شلل القطاع العام، حيث أنّ الوزارات المعنيّة، لا تعمل سوى يوم واحد في الأسبوع، ما يبطئ حركة الاستيراد والتصدير في مرفأ بيروت. فالكونتاينر يحتاج إلى أسبوع على الأقلّ ليجهز، وشهر ليصل إلى البلد المستهدف، وشهر آخر لتحويل الأموال، في الوقت الذي تعلق فيه البضائع في المرفأ لأكثر من 20 أو 30 يوماً، بانتظار التأشيرات من الوزارات، ما يكلّف صاحب المصنع مصاريف إضافيّة”.
وعن تأثّر الصناعات المحليّة بالدولار الجمركي وضريبة الـTVA يوكّد البساط أنّ “أكثر من 90% من المواد الأوّليّة التي تدخل في صلب الصناعات المحليّة معفاة من الجمرك، باستثناء مواد التعبئة وغيرها التي قد تتأثّر قليلاً برفع الدولار الجمركي ما ينعكس ارتفاعاً طفيفاً في سعر السلعة. أمّا ضريبة القيمة المضافة فلا تأثير لها على السلعة، لكون المواطن اللبناني يدفعها من الأساس وفق سعر السوق السوداء وليس منصّة صيرفة، وفي الآونة الأخيرة شهدنا شبه ثبات لسعر صرف الدولار في السوق الموازية”.
التوسع من خلال أسلوب الـPrivate label
وعن بعض المصانع التي بدأت تتوسّع، حيث لوحظ في الآونة الأخيرة شمول بعض الماركات اللبنانيّة، عدّة أصناف من الموادّ الغذائيّة، وعدم ارتكازها على صنف واحد، يقول “من المرجّح أن تكون هذه الشركات تعتمد أسلوب الـPrivate Label، بدل بناء مصانع جديدة، والتي تحتاج رخصتها من 6 إلى سنة على الأقلّ، دون احتساب الكلفة الباهظة لانشاء معامل جديدة. ويقتصر هذا النظام على اللجوء إلى معامل جاهزة وتعبئة المواد الغذائيّة باسم الشركة الجديدة”.
ويضيف أنّه “في إحدى الفترات تمكّنت الصناعات المحليّة وبفضل دعم المحروقات خلال أزمة كورونا، من أخذ حصّة كبيرة من السوق على حساب السلع المستوردة إلاّ أنها سرعان ما عادت إلى أكلافها القديمة قبل الأزمة”.
وعن الحلول يعتبر أنّ “الدولة عاجزة عن تلبية مطالبنا، فهي بالكاد قادرة على دفع رواتب موظفيها، لذا فليبدأ المعنيون بوضع خطط إصلاحيّة، وبانتخاب رئيس للجمهوريّة ورئيس للحكومة، على أن تنتشل الخطّة الانقاذيّة لبنان من أزمته”.
توصيات لمساعدة القطاع الصناعي
من جهته يعطي المركز اللبناني للدراسات بعض التوصيات التي قد تساعد القطاع الصناعي على الصمود بوجه الأزمة وأبرزها نذكر:
قطاعات مستهدفة
تحتاج الصناعة في لبنان إلى التركيز على قطاعات رئيسية قابلة لتحقيق الربح ولديها إمكانية معقولة للتصدير. ويُمكن المباشرة بذلك عبر معاينة مساحة المنتج ومحاولة رفع مستوى تعقيد المنتجات المصنّعة في لبنان. على سبيل المثال، تقترح بعض الدراسات التركيز على تعزيز صناعة الإلكترونيات، في حين يفضّل غيرها رفع إنتاج مستلزمات المختبرات الطبية. ولذلك يتعين على الصناعيين اللبنانيين أن يستندوا إلى هذه الدراسات ويباشروا ببناء الشراكات مع مراكز الأبحاث من أجل تحديث الخلاصات في ضوء الأزمة المستمرة.
أنظمة حكومية جديدة
لا بدّ من اعتماد أنظمة وسياسات حكومية محسّنة حرصًا على صمود الصناعة. على سبيل المثال:
-إقرار سياسة ضريبية وجمركية جديدة تمنح الصناعيين ميزة تنافسية على المنتجات المستوردة طوال مدّة محددة، إلى حين أن يتمكّن هؤلاء من المنافسة بجدارتهم في السوق المفتوحة العالمية
– إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية حرصًا على منفعة الصناعيين المحليين، مع الابتعاد عن فرض قيود كثيرة على السلع المستوردة للحفاظ على المنافسة والجودة العالية للمنتجات المحلية
– اعتماد مقاربة حقيقية لضبط التهريب غير الشرعي عبر ضبط الحدود وسياسة الدعم الحكومي
– وضع محفزات للعمل في المناطق الصناعية عبر تحسين البنى التحتية وتخفيض الضرائب على الملكية والضرائب البلدية.
حلول الطاقة، والبنى التحتية والتمويل
تشكّل الطاقة تحديًا رئيسياً نظراً لأن الكثير من المصانع موجودة في بيروت وضواحيها، ومن الصعب الاستفادة من الطاقة المتجددة (بسبب ضيق المساحة المتاحة للألواح الشمسية). من المفيد ربما اعتماد حلول الشبكة الصغرى للربط بمؤسسات أخرى أو حتى بوحدات سكنية. بإمكان الحكومة المساعدة في التخفيف من أزمة الكهرباء عبر “فتح الشبكة” لكي تأخذ دور إدارة الشبكة مع السماح للشركات الخاصة بتوليد الكهرباء وبيعها للشبكة.
أما بالنسبة إلى كلفة الوقود العالية، فيكمن الحل المحتمل في تشارك المواصلات (الباصات وغيرها من حلول النقل المشترك)، والحلول التكنولوجية للنقل (تطبيقات لتشارك المواصلات بين موظفي شركة واحدة أو أكثر). وللحد من الحاجة إلى رؤوس أموال كبيرة، بإمكان الصناعيين تشارك الموارد الكبيرة، وهو حل معتمد في بلدان أخرى. قد يقدّم التشارك أيضًا حلولًا لتمويل المشتريات. بإمكان عدد من الصناعيين إنشاء تجمّع لشراء المواد الخام مثلًا، الأمر الذي يسهّل الحصول على خطوط الائتمان وحسومات على الكمية.
الترحيب بالتوجهات الناشئة
من المفترض ألّا تعيق الأزمة في لبنان الشركات الصناعية من اعتماد التوجهات المعاصرة التي تساهم في تعزيز الكفاءة وتخفّيض التكاليف، لا سيما في ما يخص الجوانب الإشكالية مثل الطاقة والنقل. في هذا السياق، تُعتبر الأتمتة والتكنولوجيات الاستشعارية (المعتمدة على أجهزة الاستشعار الإلكترونية لجمع البيانات)، وعلوم البيانات، مفيدة لهذه الغاية. بالإضافة إلى ذلك، إن التحسن المستمر لكفاءة العمليات في المصانع عالميًا يوفر للصناعيين اللبنانيين فرصة الاستفادة من ذلك. على سبيل المثال، شهدت الإنتاجية، والمُعرّفة كنسبة إنتاج السلع إلى الموارد المستخدمة، تحسنًا بمقدار 2.5% سنويًا في الولايات المتحدة. ويُعزى أكثر من 52% من هذا التحسّن إلى التقدّم المحرز في إدارة العمليات، وبالتالي، فإن التعاون مع الباحثين في الجامعات المحلية من ذوي الخبرة في التوجهات الناشئة من شأنه أن يعود بالفائدة على الصناعيين اللبنانيين.