بين الحياد واللامبالاة!
كتب أنطوان قربان لـ “Ici Beyrouth“:
لا شك بأن الاضطرابات التي أعقبت مقتل “نائل” في فرنسا، تعيد إثارة قضية الفضاء أو المجال العام وعلاقته بالتعددية الدينية. وبعيداً عن القراءة الإجتماعية لتأثيرات الهجرة، يطرح السؤال حول موقع هذا المجال. فهل هو محايد عن أي مرجعية دينية؟ أم أنه غير مبالٍ، أي في انسجام مع جميع المراجع الدينية للمجتمعات التي تعيش هناك والتي تمارس بكل شرعية، مفهوم “الحق في المدينة” الذي أطلقه عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر في العام 1972؟
هذا الموضوع ليس بعيداً عن الأزمة اللبنانية، لا بل يقع في صميمها. فبينما يرغب البعض في لبنان بفرض “الفيدرالية”، ليس بمعنى “الاتحاد” من أجل تقريب الناس من بعضهم البعض، وبالتالي تعزيز الوحدة السياسية، ولكن بمعنى تشتيت البلاد وتقسيم الفضاء العام حسب الهوية الدينية.
وبالعودة إلى فرنسا، رأى البعض في أعمال التخريب التي أعقبت الإنتفاضات في الشارع، نوعاً من المطالبة العنيفة بـ “الحق في المدينة”. لكن آخرين اعتبروا أنها تردد صدى الحروب الغابرة التي عصفت بأوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. أما هذه المرة، لا يقف فريقان من نفس الدين بمواجهة بعضهما البعض، وإنما مفهومان متعارضان للعلاقة بين الدين والسياسة. فمن ناحية، هناك الفضاء العام للعلمانية الفرنسية المحايد تمامًا في ما يتعلق بالدين. ومن ناحية أخرى، هناك الفضاء العام غير العلماني، الذي يضم مجتمعات المهاجرين المسلمين، والمنيع تمامًا تجاه أي شكل من أشكال العلمنة والعلمانية. لكننا ننسى أن الإسلام دين مدني يذكرنا إلى حد ما بالبعد الروماني الديني القديم. هل يمكننا أن نطلب من دين مدني تبني رؤية الحياد المطلق للفضاء العام والدولة؟ على هذا النحو، تمثل التوترات التي تظهر في المجتمعات الحديثة والمتنوعة والمتعددة واحدة من أكبر التحديات التي تواجه ديمقراطياتنا. ويشكل لبنان في هذا السياق أرضاً خصبة لرصد الدمار الذي تخلفه مثل هذه المواجهة في الفضاء العام.. حيث يسعى معسكران رئيسيان متنافسان لفرض تعريف محدد للعيش المشترك.
ليست القضية مسألة معكسر مسلم ضد معسكر مسيحي، ولكنها بين معسكر الحداثة العلمانية والمجتمعات التقليدية حيث يتنافس القانون مع العادات الموروثة من التقاليد الدينية المختلفة. من الناحية الدستورية، الدولة اللبنانية علمانية. ولكن الفضاء اللبناني العام بعيد كل البعد عن الحياد الديني، كما يعرفه القانون الفرنسي لعام 1905 في موضوع فصل الدولة عن الكنائس. ففي فرنسا، يفترض مفهوم حياد الفضاء العام خلو هذا الأخير من أي رمزية دينية. ذلك أن الجمهورية هي الضامن للعلاقة المباشرة والفورية بين كل مواطن والدولة. وأي ارتباط وسيط وأي علاقة غير مباشرة تهدد هذا الامتياز الذي يتمتع به المواطن و”حقه في المدينة”. وبالتالي، قد تدفع أي رمزية دينية للتشكيك في الولاء للدولة. وهذا لا يعني الموروثات المتجذرة تاريخياً والتي ما عادت ترى كـ”خارجية” وإنما الرموز الحديثة التي قد تثير بعض العداوات.
أما وجهة النظر الأميركية، فلا تتعامل مع هذه المسألة بالمنظور نفسه، لا بل على العكس تماماً، حيث تحظى الوساطة الثقافية أو الدينية بالتقدير لدرجة أنّ عدم الانتماء إلى مجتمع أساسي قد يبدو أمراً مريباً. في النهاية، المواطن الأميركي مواطن صالح بالدرجة التي “ينتمي فيها إلى واحد أو أكثر من المجتمعات الوسيطة” (أ. زامبيراس).
ولكن في لبنان، الأمور مختلفة بعد. فلا يمكن لأي شخص أن يربط لبنانيته بانتمائه إلى واحدة من الطوائف الدينية التاريخية الثمانية عشر والتي تحكم قوانينها العرفية كل مسائل الأحوال الشخصية للفرد. والحال أنه كيف يمكن للمرء إذن، أن يتخيل فضاءً عاماً لبنانياً “محايداً”، على غرار فرنسا، بغياب عدم المبالاة الموجودة في الولايات المتحدة؟
في خضم الأزمة اللبنانية الحالية، تم التعتيم على مسألة الفضاء العام من خلال رفع الصوت حول ما يسمى بالمقترحات الفيدرالية. ولكن عن أي فيديرالية نتكلم؟ أي اتحاد هو هذا؟ أرض الوطن التي تمتد على مدى 10452 كيلومتراً مربعاً؟ أم الجماعات الدينية القائمة على الهوية؟ لا يبدو أن أبطال الفكرة الفيدرالية يهتمون بالاتحاد من أجل توحيد أفضل، وإنما يسعون على العكس تماماً لتقسيم الفضاء العام إلى مناطق سلطة بحسب هوية كل مجموعة دينية. وإذا كان الواقع كذلك، فهذا أبعد ما يكون عما يسمى بالفيدرالية أو الكونفدرالية، حسب النموذج السويسري الذي يدعون محاولة تقليده. ألا يمهد هذا المقترح في الحقيقة لنظام الغيتوهات الذي تهيمن فيه الديكتاتوريات القبلية والعشائرية؟
مواضيع ذات صلة :
جنبلاط يعارض الحياد.. وتيمور عند الراعي | وحده الحياد والاتحاد ينقذ لبنان.. الرياشي: الكلام عن أنّ المطران ينقل أموال عملاء نكتة سمجة | الجميّل: لن يُخيّرنا أحد بين الحياد وقوة لبنان الدفاعيّة |