قصة الأرض الواطئة
قد تكون السفيرة استقوت على سياسيي لبنان، حاكمين ومعارضين، لضعفهم وعجزهم عن إدارة شؤون البلاد، ولا ينقصها الدليل، وليس عليها أن تشهِد أحداً على ذلك، بعد نحو 9 أشهر على تغييب رئيس للجمهورية بتمييع تطبيق الدستور وبتر سلسلة جلسات الانتخاب المفترضة…
كتب راشد فايد لـ “هنا لبنان”:
كان الأسلاف يرددون حين يتطاول نفر على عزيز قوم ذلّ، لا يقدر على الرد، ولو لفظياً، بالقول: “الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء غيرها”. أي عليه أن يداري الأمر لتمر العاصفة، أو أن يصمت على الإساءة، حتى تنقلب الموازين.
أعاد هذا المثل إلى الذهن، خطابَ السفيرة الفرنسية آن غريو في الإحتفال بعيد بلادها الوطني في قصر الصنوبر الشهير، والذي تكامل مع مقررات البرلمان الأوروبي في صدد اللاجئين والوجوه المتعددة للأزمة اللبنانية، وفي طليعتها الفساد بتنوع وجوهه، والسلاح غير الشرعي، والأزمة الاقتصادية، وتعطيل الاستحقاقات الدستورية وسوء الإدارة. وحمّل البيان، في فقرات عدة، “حزب الله” وحلفاءه، “التيار الوطني الحر”، و”حركة أمل”، المسؤولية عما وصلت إليه البلاد، وكذلك مسؤولية عرقلة انتخاب رئيس الجمهورية وتعطيل تحقيقات انفجار مرفأ بيروت. والبيان، في الأساس، اقتُرح من مجموعة يمينية فرنسية في البرلمان الأوروبي، دعت أطرافاً أخرى في عضويته إلى الالتحاق بها.
قد تكون السفيرة استقوت على سياسيي لبنان، حاكمين ومعارضين، لضعفهم وعجزهم عن إدارة شؤون البلاد، ولا ينقصها الدليل، وليس عليها أن تشهِد أحداً على ذلك، بعد نحو 9 أشهر على تغييب رئيس للجمهورية بتمييع تطبيق الدستور وبتر سلسلة جلسات الانتخاب المفترضة. لكن السفيرة، وقد وجهت إلى اللبنانيين ما يتجاوز العلاقة الديبلوماسية بين دولتين صديقتين، قد تناست أن لرئاسة بلادها حصة من كلام على الفساد راج إبّان زيارات رئيسها للبنان عقب تفجير مرفأ بيروت، في 4 آب 2020 والذي توفّي على إثره ما يربو على 200 شخص، وأُصيبَ الآلاف بجروح. ومن المفارقات، في تلك الفترة، أن رسىا تنفيذ أكثر من مشروع إنمائي على شركات فرنسية، لا تتيح المعطيات، لدى المراقبين المتخصصين، إعلان نزاهتها حيالها، أما ما قدمته فرنسا للبنان مشكورة فقد خدم لبنان، طبعاً، لكنه خدم سياسة فرنسا الخارجية في العالم والشرق الأوسط ولبنان. فقد جمعت، في آن، بين مكانة لبنان في الوجدان الفرنسي السياسي العام، والسعي إلى تجديد مكانتها، وتثبيت مصالحها في لبنان والعالم العربي والشرق الأوسط.
يتخطى خطاب غريو الفعل ورد الفعل في العلاقة الثنائية بين البلدين، فهو خطاب يرسم مستقبلاً لا ينسجم مع الماضي الفرنسي، عموماً، تجاه لبنان، خصوصاً أن باريس ليست من الخفة في العلاقات الدولية بحيث تتلو سفيرتها في لبنان بخطاب وداعي، لا تطلع عليه الخارجية الفرنسية، ويمحّصه أربابها، الخبراء في تقييم الأمور، وحفظ الود المعروف بين البلدين.
ربما يصح القول أن خطاب غريو هو، ضمناً، إعلان وفاة مهمة جان ايف لودريان، وتأكيد يأس باريس من جدوى الإصرار على التوسط بين أفرقاء لبنانيين استمرأوا تدمير الدولة، وادعاء “الإيمان” بالحوار، وضرورته، لكن ليس في اسم مرشح غير سليمان فرنجية.
بدا خطاب غريو امتداداً لخطاب رئيسها إيمانويل ماكرون في الساسة اللبنانيين، عقب انفجار مرفأ بيروت، يوم “قرّعهم” على نهجهم في التعاطي مع أزمات بلادهم، وكاد يعلن إقالتهم من مهماتهم السياسية، لو استطاع، لكنه ما لبث أن أعلن شرعيتهم، وأن لا مهرب من التعاون معهم.
ما لم تقله السفيرة الفرنسية قالته توصيات البرلمان الأوروبي، غير الملزمة للبنان، ومفاده أن لا ثقة في استخدامه المساعدات الإنسانية، لذا يجب “تشكيل فريق عمل إنساني دولي تحت رعاية الأمم المتحدة لدعم تنفيذ المساعدة الإنسانية، والإشراف على استخدام الأموال”.
ما أوصى به البرلمان الأوروبي ليس فتحاً في شؤون الدول، لكنه يبدو كذلك بالنسبة للبنان، وانعدام الثقة في إدارته، بدليل دعوة الحكومة اللبنانية إلى “التنفيذ السريع للإصلاحات الإدارية والاقتصادية والمالية الرئيسية التي ستضمن الانتعاش السياسي والاقتصادي”، واعتماد تعديلات على قانون السرية المصرفية ومواصلة تنفيذ الإصلاحات، في القضاء، لضمان الاستقلال ومنع التدخل السياسي والإفلات المؤسساتي من العقاب في نظام العدالة”. يضاف إلى ذلك “سوء الإدارة والاحتيال المتعلق بالمشاريع الممولة من الاتحاد الأوروبي بسبب الافتقار إلى الشفافية والرقابة وضعف معايير الاختيار والعطاءات وحفظ السجلات”. وتأكيداً لفقدان الثقة بالسلطة اللبنانية يشدد الاتحاد الأوروبي على أن يشرف على المشاريع ويقدم التمويل على دفعات بعد عمليات التحقق المستقلة لكل مرحلة من مراحل المشاريع من أجل التعويض عن مخاطر الفساد العالية في لبنان”.
الغيض من فيض الشكوك في تغلغل الفساد اللبناني يجعل من مقررات البرلمان الأوروبي نموذجاً لكيفية محاكمة أنظمة الفساد لا سيما في العالم الثالث، ولبنان بات من عناوينه.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |