فرنسا ولبنان: الواقعية السياسية والصداقة التاريخية
ترجمة “هنا لبنان”
كتب أنطوان قربان لـ “Ici Beyrouth“:
لجأ المبعوث الفرنسي جان إيف لودريان، مدفوعاً بلا شك بالغضب من مماطلة وتسويف الأطراف اللبنانيين، إلى أسلوب قد يعتبره البعض غير دبلوماسي. ووجّه رسالة إلى النواب اللبنانيين يطالب فيها برد كتابي بحلول 31 آب. الرسالة التي قد يرى فيها البعض إحراجاً للنواب، تقدم فرصة للتذكير بأنّ فرنسا ليست الأم الحنون التي يفترض أن ترضي رغبات طفلها المدلل حصراً. فرنسا هي أولاً وقبل كل شيء دولة تفقه مصالحها وتعمل على خدمتها وهذا ما أثبته التاريخ وهذا ما تعكسه من جملة أمور أخرى، الصداقة الفرنسية اللبنانية التي تعود لقرون. واليوم، لم يعد بالإمكان اختزال هذه الصداقة بالعلاقات المتميزة التي تمكنت فرنسا من الحفاظ عليها مع المسيحيين في الشرق وخصوصاً الكاثوليك منهم.
المفاجأة من العيار الثقيل!
لم نعهد في الممارسة الدبلوماسية توجيه وسيط أجنبي رسالة كتابية للنواب اللبنانيين، عبر سفارة بلاده. ولا شك بأن الدافع وراء ذلك هو غضب الرئيس الفرنسي إزاء تسويف كي لا نقول سوء نية، بعض الفصائل السياسية اللبنانية. ومن أجل ممارسة المساعي الحميدة بشكل فعال، لا بدّ للوسيط من أن يعرف مقدمًا مع من يتعامل. وفي وضع لبنان، تنتج المماطلة بلا شك عن موروث ثقافي متجذر بشكل كبير. فمن ناحية، هناك الخلط في السياسة بين الخداع والذكاء. ومن ناحية أخرى، يرتقي الكذب إلى مرتبة إحدى فئة العقل. وبالنتيجة، لا يتم الوفاء بأي وعد ولا احترام أي كلام أو حتى توقيع يمهر الالتزام.
لا شك بأن الانزعاج بين فرنسا ومحاوريها اللبنانيين وتحديداً المسيحيين بادٍ وواضح. فهل هي خيبة أمل محب؟ ربما. يبدو الأمر كما لو أن هؤلاء يشعرون بأن فرنسا التي لطالما رأوا فيها “الأم الحنون” وجناح الحامية، قد تخلت عنهم. يدركون أنّ العالم تغير منذ القرن التاسع عشر وتأخذهم الدهشة لأنهم ما عادوا من المختارين لديها. لا بد من الاعتراف بأن العالم بأسره مستاء من الفتنة اللبنانية التي تدور في عصر آخر. في لبنان، يُفهم العيش المشترك خارج العقد الاجتماعي الذي يسمح للأمة بالولادة. ولا يتمحور الأمر إلا حول خلافات تخص الهويات الجماعية، والتي يعترف لا بشرعيتها إلّا بما يخدم تماسك المجتمع السياسي. لكن القبائل والعشائر لا تستطيع أن تتّحد وتتحمل معًا مسؤولية البحث عن الصالح العام.
غالبًا ما نتحدث عن الاستثناء الفرنسي، والذي لا يقتصر على مجرد استثناء ثقافي. لقد كانت فرنسا موجودة لفترة طويلة جدًا في مجال السياسة الخارجية. ولطالما تبنت استراتيجية فريدة في البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً تجاه العالم العربي والإسلامي. ويعود ذلك إلى عهد فرانسوا الأول، حيث تفاوضت فرنسا بمهارة على أولى معاهدات الامتيازات العثمانية من أجل مواجهة ارتقاء آل هابسبورغ وصعودهم بالنمسا وإسبانيا.
ومع ذلك، في وقت مبكر من عام 762 م، كانت هناك علاقات سفارات بين الملك بيبين القصير والخليفة العباسي المنصور. وفي عهد هارون الرشيد، خليفته، كان للكارولنجيين اتصالات متكررة مع الخلافة. وكانت هناك تسع سفارات بين عامي 797 و 807. وفي عهد لويس الثاني عشر، تم التفاوض على امتيازات خاصة مع المماليك في القاهرة عام 1500.
وفي عهد سليم الأول، قام العثمانيون بطرد المماليك من بلاد الشام ومصر، وبسطوا سيطرتهم على كامل شرق البحر الأبيض المتوسط. وفي حين أن أوروبا كلها وقفت في صراع لمواجهة العثمانيين، وقّع فرانسوا الأول والسلطان سليمان القانوني، في عام 1536، أول تحالف. ومنح هذا التحالف لفرنسا حماية للأماكن المقدسة ولمسيحيي الشام، مع الحق بإنشاء مشاريع تجارية في المدن العثمانية. ومن ثم، تم تجديد هذه الامتيازات في عام 1569، بين شارل التاسع وسليم الثاني؛ وفي عام 1581 بين هنري الثاني ومراد الثالث؛ وفي عام 1597 بين هنري الرابع ومحمد الثالث.
وفي عام 1604، تم التوقيع على معاهدة سلام وامتيازات جديدة بين هنري الرابع والسلطان العثماني أحمد الأول. وبموجب المعاهدة، تتوفر الحماية الفرنسية لجميع رعايا السلطان الكاثوليك. وقبل كل شيء، يتم ضمان أسبقية سفير فرنسا وقناصلها على جميع ممثلي الدول الأخرى. في عام 1640، أرسل لويس الرابع عشر رسالة إلى الموارنة يضمن فيها حمايتهم. وفي عامي 1690 و 1740، توسعت الحماية الفرنسية لتشمل الكاثوليك من جميع الجنسيات على الأراضي العثمانية. وبعد قمعها من قبل الجمعية التأسيسية أثناء الثورة، واصلت الطوائف الدينية عملها في الخارج في عام 1792، وفي ظل الاضطهاد، أرسل السفير الفرنسي في القسطنطينية رسالة إلى باريس يطلب فيها تعليمات بخصوص الشخصيات الدينية الكاثوليكية التي طرقت بابه. وأتى الرد في الاتفاقية بعدم نسيان أن الكاثوليكية الشرقية هي الأمة.
وهذا يدل على أن الحماية المقدمة هي أولاً وقبل كل شيء، أداة سياسية حتى ولو كانت تعكس حساسية دينية. لم يتم التعبير عن هذا التضامن خلال حرب الثلاثين عامًا (1618-1648) التي قضت على أوروبا المسيحية بسبب الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت. لم يتردد الكاردينال دي ريشيليو، في ظل حكم لويس الثالث عشر، في الانضمام لأمراء البروتستانت الألمان لمواجهة آل هابسبورغ في النمسا؛ بالتزامن مع محاربة البروتستانت في فرنسا. هذا ما يسمى بالواقعية السياسية.
كل ذلك يدفعنا للقول إنه صحيح أن علاقات فرنسا ولبنان تعود لقرون، لكن حنان الأم الحامية لا يمنعها من أن تهز طفلها المدلل قليلاً إذا اقتضت المصلحة بذلك. وهكذا يتّضح المغزى من رسالة جان إيف لودريان إلى النواب اللبنانيين.. هذه الرسالة إشارة إلى نفاد صبر فرنسا وتأكيد على أنَّها تحمي مصالحها أولاً وقبل كل شيء.
للمرة الأولى في تاريخ العلاقات اللبنانية الفرنسية القديمة والوطيدة، تشذ النغمة عن القاعدة. فهل سيقابلها اللبنانيون بما يكفي من الحنكة والدهاء السياسي وعدم الاستسلام دون قيد أو شرط، لملالي طهران؟ الأمر منوط باللبنانيين وحدهم، وعليهم تقع مسؤولية مواءمة مصالح لبنان، السيادي والمستقل وغير المتحيز، مع مصالح فرنسا.. صديقة البلاد منذ فجر التاريخ!
مواضيع ذات صلة :
الرئاسة الفرنسية: مفاوضات وقف إطلاق النار في لبنان تقدمت بشكل ملحوظ | فرنسا: إسرائيل تريد الاحتفاظ بإمكانية ضرب لبنان | لجنة الطوارئ تتابع تنفيذ مخرجات مؤتمر باريس لدعم لبنان |