برّي بين الغمز الأميركي والضغط الإيراني
لماذا عاد بري إلى طرح الحوار مجدداً، وما القصد من قوله إنها الفرصة الأخيرة؟ هل من باب المكابرة أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟ وهل اعتقد أنّ قبوله بالجلسات المتتالية من شأنه أن يغري المعارضة؟
كتب سعد كيوان لـ “هنا لبنان”:
يصرّ نبيه بري المخضرم والمحنّك على ممارسة الدور الذي يجيد من موقعيه، الرسمي رئيساً لمجلس النواب والشعبي رئيساً لحركة أمل، مقتنعاً – ومتأملاً- أنه ما زال لولب الحركة السياسية وميزانها ومايسترو أرانبها، غير آبه بما أصبحت عليه الحال، أو الأصح تدهور الحال السياسية والاقتصادية والمالية والشعبية والمؤسساتية لجمهورية الموز، التي يتربع على عرش رئاسة مجلسها منذ أكثر من ثلاثين سنة (1992) من دون انقطاع وعلى زعامة حركة أمل منذ أكثر من أربعين سنة (1980)، ما نقله بطبيعة الحال إلى خريف العمر (87 سنة – مواليد 4 أيار 1936 بحسب كتاب السيرة الذاتية “أسكن هذا الكتاب” الذي أعده الزميل نبيل هيثم ووقّع عليه بري نفسه).
هذا الدور المهم في السياسة اللبنانية، وفي لعبة السلطة مارسه بري بجدارة لعقود من موقعه كشريك في السلطة، والذي هو حصيلة زمن صاخب وحافل بالأحداث والتقلبات والحروب والاقتتال، ولعبة التوازنات المحلية والخارجية التي أمنت ظروف انتقاله من الشارع إلى البرلمان. وشاءت الصدف أن يرث موقع رفيقه حسين الحسيني سواء في رئاسة الحركة أو في رئاسة مجلس النواب، ما جعل الأمور بعدها على قول المثل الشعبي “متل المي بالنزلة”!
غير أنّ شحّ المياه اليوم راح يقلّل من الأرانب ويجعل دور رئيس المجلس ورئيس حركة أمل صعوداً سواء على الصعيد السياسي العام أو على صعيد الساحة الشيعية، وبات في حراكه يتكل على مخزون الماضي أكثر منه على قوة النفوذ والتأثير الحاليين منذ ما بعد نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة (أيار 2022) التي أفرزت برلماناً غير طيّع ولا أكثرية “صدق صدق” فيه. وقد خذلته، وأحياناً صدمته، التوازنات الجديدة بدءاً بالتجديد له رئيساً لأول مرة بأكثرية النصف زائد واحد (65 صوتاً) بعد أن كان يحظى بشبه مبايعة. ثم تتالت الخيبات الواحدة تلو الأخرى، ما دفعه إلى الانكشاف والانحياز الفاضح والتورط في عملية تهريب نصاب جلسات انتخاب الرئيس، في حين كان نوابه يلتزمون بحضور كل الجلسات التي عقدت لانتخاب الرئيس بين 2014 و2016 والتي سبقت انتخاب ميشال عون.
أما الدعوة إلى الحوار في المراحل الحرجة التي جعل منها سلاحه الأمضى في أكثر من محطة، باتت اليوم غير مسموعة لا بل مرفوضة، والمجلس في حالة شلل شبه كامل. وها هو أمس في ذكرى الإمام الصدر يدعو مجدداً إلى الحوار حول “مواصفات الرئيس” ولكنه حدّد مدته بأسبوع فقط تتبعه جلسات مفتوحة ومتتالية لانتخاب الرئيس، وهذا الأخير هو الشرط الذي كانت تصرّ عليه المعارضة. فلماذا عاد بري إلى طرح الحوار مجدداً، وما القصد من قوله إنها الفرصىة الأخيرة؟ هل من باب المكابرة أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟ وهل اعتقد أنّ قبوله بالجلسات المتتالية من شأنه أن يغري المعارضة؟ لم يتأخر المعارضون في الجواب معلنين رفضهم الدعوة إلى الحوار الذي يجب أن يعقده الرئيس العتيد بعد انتخابه. في المقابل، لم يبدِ حليفه “حزب الله” أيّ حماس للدعوة ولم يصدر عنه أي موقف مؤيد او مشجع فيما تجاهلت وسائل اعلام الممانعة خطاب بري بالكامل. علماً أنّ “حزب الله” بخلاف بري يريد حواراً وتفاهماً حول دور الرئيس الجديد ومهماته، وهذا أمر مخالف للدستور. وحده جبران باسيل الحليف اللدود لبري لاقاه في منتصف الطريق وهو يعلم أن الأخير لا يثق به. مبادرة رئيس المجلس هي إذاً كمن يحرث في الماء!
كما أنه بدا لافتاً ومستغرباً أن يدعو بري إلى حوار عشية قدوم المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت لإطلاق الحوار الذي أعدّ له ومهّد له بأسئلته في جولاته السابقة. فهل قصد بري التحضير لمهمة لودريان أو التشويش عليها نظراً للتزامن بين الخطوتين، ولعلمه المسبق أنّ المعارضة ترفض صيغة الحوار التي يطرحها هو؟ وهل مبادرة بري رجع صدى لما يحاك إقليمياً ودولياً، وللرسائل التي أطلقت من الأمم المتحدة خلال التصويت على صيغة قرار التمديد لقوات “اليونيفل”، والتي كانت حاسمة تجاه رفض أي تساهل مع سلوك “حزب الله” في الجنوب وتحريضه للأهالي ضد القوات الدولية. كما ترافقت الدعوة مع زيارة آموس هوكشتاين الاستطلاعية والترغيبية لبري وفريق الممانعة بجزرة الترسيم أو التحديد البري الذي يسعى له “حزب الله” لأسباب يطول ذكرها، وتعمده العشاء مع قائد الجيش برفقة السفيرة الأميركية وتوزيع صورة عنه. ما دفع بري إلى التمايز عن “حزب الله” بعدم ذكره إطلاقاً لا في خطابه ولا في مبادرته مرشحه سليمان فرنجية..
أما حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني فقد حطّ في بيروت وتركيزه على السعودية. وكان لافتاً مثلاً عدم حضوره مهرجان ذكرى تغييب الصدر. وبدت زيارته استيعابية ومحاولة للتركيز على الأولويات إقليمياً، وتحديداً على مأزق النظام السوري ومصير الخط الاستراتيجي طهران- بغداد- البوكمال السوري وبيروت!
مواضيع مماثلة للكاتب:
برّي يفاوض.. أين المعارضون؟! | “الحزب” السلاح الإيراني الأكثر فعالية للتفاوض | وليد جنبلاط… السهل الممتنع |