حكاية “تهريب” الأموال للخارج
ترجمة “هنا لبنان”
كتب نيكولا صبيح لـ”This is beirut“:
“المصارف اللبنانية هرّبت لعدد قليل من المحظيين.. مبالغ ضخمة”. هذه النغمة نفسها التي تتردد باستمرار منذ أربع سنوات في كل نقد وفي كل رأي وتحليل تقريبًا في ما يتعلق بأداء البنوك منذ بداية الأزمة الاقتصادية. ويزعم أصحاب هذه المقولة أن المصارف حولت مبالغ ضخمة من المال إلى الخارج لعدد قليل من الأفراد المتميزين، بينما حرمت أولئك الأقل حظاً من الضروريات الأساسية.
ومع أنّ هذا الإجراء ليس ممكنًا، إلا أنّ السرد المنسوج حوله تطور لأبعاد كبيرة وتحول إلى حبكة كاملة بشخصيات خرافية وصولاً حتى إلى لمسة “الزيز” السياسي. لذلك، دعونا نحاول إعادة التركيز على الأمر الذي استحوذ على الجميع، بما في ذلك البقال المحلي الذي تعرضت مبيعاته لضربة خطيرة. ولنحاول فهم هذه القصة بعشر نقاط موجزة.
1. في البداية، يلحظ استخدام مصطلح غريب لوصف هذه الظاهرة: “تهريب” الأموال إلى الخارج. يرسي هذا المصطلح بشكل غير مناسب نوعاً من المقارنة إلى حد ما بالإتجار بالبشر في الصومال. ومن المهم ملاحظة أنه في ظل غياب قانون ضبط رأس المال، فإنّ جميع التحويلات كانت ولا تزال قانونية. وصحيح أن عمليات النقل كانت تفتقر للعدالة الأخلاقية، ومع ذلك، فالسياسيون بالتأكيد آخر من يمكنه إعطاء دروس في الأخلاق.
2. علاوة على ذلك، من الأهمية بمكان ما تجنب التعميم. فلا يخفى على أحد أن بعض المصارف أبدت تساهلا أكثر من غيرها. ولهذا السبب، قبل إصدار أي أحكام خاطئة، لا بد من انتظار التدقيق على المصارف كما نصت الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، انسجاماً مع الوعد المقطوع منذ سنين. ولكن “عالوعد يا كمون”..
3. حتى أن المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم، المدعوم من نبيه بري، وقف عاجزاً. في شباط 2020، استدعى الرؤساء التنفيذيين للمصارف الكبرى للاستفسار عن هذا “التهريب”. ومع ذلك، تبين أن الأمر كان في الغالب عملاً من أعمال الترهيب، مع مناهضة التخلف عن سداد الدين الذي انتهى بالتحول لحقيقة بعد بضعة أيام.
4. فلننتقل للمبالغ المحولة: هنا، لا يوجد إجماع أيضًا، حيث تراوحت الأرقام المطروحة بين ما هو منطقي وما هو غير معقول. ولا شك بأن في هذا البلد قاعدة لا تتزعزع: بغياب الأرقام الراسخة، وهذا هو الحال في كثير من الأحيان، تزداد أرض الأوهام خصوبة.
5. طرح الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي رقماً قدره 2.6 مليار دولار أميركي، يمثل جزء منه ودائع ائتمانية من البنوك المراسلة، وبالتالي هو قابل للاسترداد بطبيعته. وذهب المدير العام السابق للمالية إلى أبعد من ذلك، حيث اقترح مبلغًا قدره 6 مليارات دولار. ومن خلال استغلال هذه الفرصة الشعبوية، طرح بعض السياسيين أرقاماً أكثر غرابة. ولكن في المجمل، تمثل هذه الأرقام ما بين 3% إلى 4% من الودائع الخاصة بالدولار، وهو ما لا يكفي لإيقاع أزمة مالية. بالإضافة إلى ذلك، بما أن الأمر يتعلق في كثير من الأحيان بالأثرياء، من المحتمل أننا ننظر إلى أقل من 1% من المودعين الذين حالفهم الحظ.
5. من المهم في هذا السياق، التوضيح أن عمليات تحويل الأموال كانت شائعة خلال أزمات معينة، مثل اغتيال رفيق الحريري أو حرب تموز 2006 أو اعتقال سعد الحريري في مدينة الرياض. وفي مثل هذه الأوقات، كان من الممكن إخراج بضعة مليارات من الدولار، ولكنها سرعان ما كانت تعاد بعد هدوء العاصفة. حتى أن الأمر أصبح أشبه بالروتين المصرفي في بلد عرضة للاضطرابات السياسية المتكررة. لكن المشكلة تكمن هذه المرة في استمرار الاضطرابات، وهكذا، لم تجد الأموال طريق العودة قط.
7. المعلومات المتوفرة حول هوية أو فئة أو دوافع متلقي هذه التحويلات قليلة جدًا. هل كانوا سياسيين أم مصرفيين أم رجال أعمال أم رجالًا عاديين يؤمنون قوت أسرهم؟ هل كان هؤلاء المودعون في وضع جيد للغاية أم يتدبرون أمورهم بالكاد؟ ما هي الأغراض الحقيقية وراء هذه التحويلات؟ لتأمين ملاذ آمن، أو التعامل مع حالات الطوارئ الطبية، أو إنشاء مشروع تجاري، أو سداد الضرائب الأجنبية، أو سداد أقساط الرهن العقاري؟ من المحتمل أن تحمل الإجابة مزيجاً من كل ما سبق، بنسب غير واضحة.
8. كما أن هناك جانباً أساسياً يفوت مناهضي العمل المصرفي هؤلاء: ليس لدى المصارف مصلحة حقيقية في تحويل الودائع إلى الخارج، لأن ذلك من شأنه أن يخفض سيولة العملات الأجنبية لديها. ربما قامت بذلك في وقت ما. وفي هذه الحالة، بطريقة منضبطة، ربما تحت ضغط، بسبب احتياجات حيوية، أو لمجرد حماية سمعتها. وكان الأمل طوال الوقت بأن تعود هذه الأموال بطريقة أو بأخرى، بمجرد أن تهدأ الاضطرابات التي يفترض أنها مؤقتة.
9. على أية حال، لا تزال طلبات استعادة هذه المبالغ مستمرة منذ بداية هذه الملحمة التي استمرت أربع سنوات، والتي ظلت تتكشف أكثر فأكثر. ومع ذلك، فإن استعادة هذه المبالغ الضخمة تبدو غير واقعية لأسباب عديدة: ربما استخدمت الأموال المحولة للاستثمارات أو دفع الضرائب أو لأسباب الرعاية الصحية. علاوة على ذلك، حتى لو تمت إعادة بعض المبالغ لأي سبب من الأسباب، فإنها لا تزال مملوكة لأصحابها الأصليين. وعلى هذا النحو، لا يمكن استخدامها لتعويض المودعين الآخرين. وسيخضع كل من المودعين الجدد والحاليين للقوانين نفسها (151، 158، وما إلى ذلك).
10. في نهاية المطاف، وبغض النظر عن التحويلات الأجنبية، العامل الوحيد الذي يعطل النظام هو إفلاس المصارف، وهي ظاهرة شهدتها العديد من الحالات في كل من الدول الغنية والأقل ثراء. وتشمل الأمثلة الأخيرة “بنك وادي السليكون” (Silicon Valley Bank ) في الولايات المتحدة الأمريكية ومصرف “كريدي سويس” (Credit Suisse).
ومع ذلك، ما كان لهذا السيناريو برمته أن يتكشف لو اعتمد قانون ضبط رأس المال بشكل صحيح منذ البداية. وقد تم تقديم مشروع القانون مبكراً إلى البرلمان، بناءً على طلب كل من حاكم مصرف لبنان والمصارف. وبانتظار الموافقة على اقتراح القانون، حثت جمعية المصارف اللبنانية في تشرين الثاني 2019، المؤسسات المصرفية على قصر التحويلات الأجنبية على الحاجات الشخصية الطارئة. كان الهدف من ذلك حينها منح اللجان البرلمانية وقتًا كافيًا لإنهاء المناقشات واعتماد مشروع القانون رسميًا، والذي تعتقد جمعية مصارف لبنان أنه محسوم.
ومع ذلك، وبعد مرور أربع سنوات، لا تزال اللجان تناقش القانون نفسه! لماذا؟ يبدو أن البرلمان التزم على الدوام بالمقولة الشهيرة: لمَ التأجيل بينما بالإمكان التغاضي تماماً!