بيت التباريس: عود بلا حدود
كتب آلان أندريا لـ “Ici Beyrouth”:
يفتح “بيت التباريس” الأثري أبوابه أمام الموسيقى ويستعد بعد النجاح الذي حققه في 9 كانون الثاني لحفل مميز في 21 شباط يحتفي بعودة عازف البيانو الموهوب روبرت لمع، الذي وصف في العام 1970 بـ “موزارت لبنان الجديد”.
وترك حفل 9 كانون الثاني أصداء كبيرة على الرغم من الأوضاع الاستثنائية التي يعيشها لبنان. القاعة اكتظت بجمهور متحمس عاش تجربة موسيقية تجاوزت الحدود الكلاسيكية على أنغام العود والإيقاعات الحيوية المتناغمة. وبدا ذلك واضحاً في الابتسامة التي ارتسمت على محيا الباحثة زينة صالح كيالي وتعابيرها التي جمعت بين الدهشة والفخر، وهي تتأمل بيت التباريس.. ذلك البيت الذي أسسته رغم كل الصعاب في العام 2022، والذي يشرع أبوابه للفنانين والذي عرف ذروة من النجاح خلال الحفل الثاني من العام 2024. استرشدت الباحثة اللبنانية الفرنسية بشغفها الأصيل وبعقليتها المنفتحة التي تندر مثيلاتها في عالم يهدده التطرف بشكل متزايد. وحصدت الكثير من النجاحات وعلى الرغم من الجدلية التي يثيرها البعض حول بعض آرائها حول مكانة التناغم في الموسيقى الشامية (خصوصاً الفنية والشعبية أيضاً) تبقى اليوم إحدى الحماة المخلصين للموسيقى الشامية، وللفن الغربي في لبنان. ويأتي ذلك في لحظة مفصلية وحرجة من تاريخ لبنان حيث إن المؤسسات اللبنانية، التي كانت تعتبر مرجعيات موسيقية، والتي يفترض بها الدفاع عن هذا الفن، آثرت التضحية به مع الأسف على مذبح المصالح الشخصية.
قاعة مكتظة
يكرس بيت التباريس قاعاته، بدعم من المركز الفرنسي في لبنان وبدعم سخي من الرعاة، لترويج الموسيقى الفنية الغربية حيث يجد كل موسيقي مسرحًا مناسبًا للتعبير عن موهبته. وهذا ما ترجم في 9 كانون الثاني، حيث اكتظ بيت التباريس بالحضور الذي تجاوز السعة القصوى على الرغم من حالة عدم اليقين على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية وحتى الأرصاد الجوية في لبنان. وتوافد أكثر من مئة مستمع حسب المنظمين لحضور هذا الحفل الذي حمل عنوان “عود بلا حدود”، واضطر البعض للبقاء واقفين ولكنهم لم يكترثوا لأن الهم الرئيسي هو الانجراف مع الموسيقى. في ذلك المساء، اجتمع الناس على وحدة الرأي بالفن، وجمعت القطع المتناثرة من النسيج الاجتماعي المكسور، وذابت ذوات الحضور في ذلك الملاذ.
رماد في العيون
لما نال هذا الحفل كل هذا الاهتمام لو أنه اقتصر على مجرد التنظيم والزينة، فقد أبدع المنظمون بالإجماع، امتزجت روح المكان بالأداء الأنيق للعازفين الثلاثة في هذه الأمسية: سمير نصر الدين على العود، جاك إسطفان على الكمان الأجهر (الكونترباص)، وبهاء ضو على الإيقاع. وبنى هذا الثلاثي بشكل واضح عالماً صوتياً مترفاً، اندمجت فيه أنغام العود والإيقاعات، الشامية أحياناً والغربية واللاتينية أحياناً أخرى. ويبقى هذا التجاور، في الواقع، مثيرًا للاهتمام في سياق الموسيقى التجريبية، ولكنه جزء من اتجاه متزايد ومؤسف إلى حد ما نحو تغريب الموسيقى المشرقية (أحيانًا بشكل كاريكاتوري).
ويتجلى ذلك بوضوح في كلمات عازف العود الذي أعلن خلال الحفل أن النقل الشفهي للموسيقى الشامية، على مر القرون، كان ليعيق تطورها متعدد الألحان. ويساهم مثل هذا التأكيد في تهميش الموسيقى النموذجية التقليدية الأحادية لصالح الموسيقى النغمية التوافقية الأوروبية (متعددة الألحان)، المرتبطة بشكل خاطئ بفكرة التطور. فهذه الحداثة الخارجية (أي المستعارة من ثقافة أخرى) تؤدي في النهاية إلى سيادة الموسيقى الاستهلاكية الكريولية (أو الهجينة) على حساب الموسيقى الأصلية. ولا نمل من التأكيد على أن هذه “التجعيدة” الموسيقية تعتمد على نظامين موسيقيين غير متوافقين بشكل متبادل وستكون مشابهة في حكاياتها للعبارة اللبنانية الشهيرة “هاي! كيفك؟ “سا فا” (ca va)؟ “تشاو (ciao)”. لن نواصل تحليل هذه الممارسة أكثر من ذلك، حيث أنها مفصلة بالفعل بشكل وافٍ في سلسلة من المقالات المنشورة على موقع Ici Beyrouth.
بين التنوع والتجانس
برز الحفل كمزيج انتقائي من الموسيقى الشامية والموسيقى الغربية والعناصر الاستشراقية.. الأمر الذي قد خلق مزيجًا غير متجانس إلى حد ما. وتمحور الحفل بأكمله حول ألحان أو توزيعات سمير نصر الدين. على المستوى الجمالي البحت، انخرط الموسيقيون في تبادل لطيف للنغمات. وملأ جاك إسطفان المساحة بالصوت الكثيف لفنه البارع (الأوتار بأصابع اليد اليمنى بدلاً من القوس) مع ضمان أقصى قدر من الإسقاط بمهارة. وانبثق الصوت من العود في استدارة ملحوظة، حيث بدت الموسيقي في انسجام تام مع آلته الموسيقية وسلطت سلسلة من الارتجالات، الضوء على فن التقسيم الذي يتقنه بلا شك. وهكذا ظهرت أصالة العود في هذه المقاطع، بينما في لحظات أخرى، بدا أقرب لغيتار يبحر على سلم خماسي، مشبعًا في الغالب بموسيقى البلوز. وأظهر عازف الإيقاع براعة لا تنضب، على الرغم من أن بعض الخطوات كانت لتجعل الأداء مثالياً.
ختام الأمسية الرائعة شكل دعوة للمشاركة على الدوام في العروض التي تنظمها زينة صالح كيالي بعناية في بيت التباريس.. ووعد بالمزيد من السحر الموسيقي، تحديداً في الحفل المنتظر بفارغ الصبر في 21 شباط لعازف البيانو الموهوب روبير لمع الذي لقبته الصحافة عام 1970 بـ “موزارت لبنان الجديد”.
مواضيع مماثلة للكاتب:
بلبلة في البسطة الفوقا.. توقيف صاحب المبنى! | الداخلية الإماراتية تواصل البحث عن شخص مفقود | معابر البقاع الحدودية باتت خارج الخدمة لوقف الإمدادات العسكرية من سوريا |