لعنة الفنانين الأبدية
كتب آلان أندريا لـ“Ici Beyrouth”:
بين الإحتفاء بالفنانين وصمّ الآذان عن معاناتهم، إزدواجية تطرح علامات استفهام حاسمة حول مكانة وحماية هؤلاء المبدعين الذين يثرون ببصماتهم التراث الفني العالمي. ويسلط هذا المقال الضوء على قصة ثلاثة ملحنين غربيين اختبروا ما يعيشه البعض حاليا في بلاد الأرز.
واحتل الفن منذ فجر التاريخ، مكانة فريدة ومتميزة داخل كل المجتمعات، ومثّل النواة التي تحرك التفكير والعاطفة. وعلى الرغم من موجات الانحطاط التي تعصف بهذا العصر، بقي الفن قادرًا على كشف أسبار الروح والهشاشة البشرية من خلال التعبيرات الإبداعية للفنانين. ومع ذلك، من المؤسف أن المجتمع الذي يقف في الصفوف الأولى حين يتعلق الأمر بالاحتفاء بهذه المواهب، يميل لإبداء تساهل أقل مع معاناة الفنان (ضحية سوء فهم في الغالب)، على مستوى الصحة أو من الصعوبات المالية أو غيرها من تحديات الحياة. هذه الإزدواجية تثير أسئلة معقدة حول مكانة هؤلاء المبدعين في المجتمع: فكيف يمكن لهذا الأخير التوفيق بين إبداء التقدير الفني والدعم الملموس للفنانين الذين يعانون من صعوبات شخصية أو مهنية؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تسلط الضوء فقط على مدى تقدير الثقافة للإبداع، ولكن أيضًا على التزامها بتأمين راحة وكرامة أولئك الذين يثرون التراث الفني العالمي ويمنحون الحياة للخيال الجماعي.
عشرون سنتيم
يشهد التاريخ بشكل مؤثر على هذا الواقع الذي يعيشه العديد من الفنانين الذين تركوا لمواجهة مصيرهم، والذين تسلحوا بالمرونة لمواجهة تحديات الحياة والفقر والمرض. ومن الأمثلة على ذلك، فرانز شوبرت (1797-1828)، أحد عمالقة الموسيقى الرومنطيقية، الذي عرف بواجهة الصعوبات المالية طوال حياته، حيث أن مؤلفاته، التي تمجد اليوم باعتبارها من روائع الفن، لم تحقق نجاحًا تجاريًا خلال حياته. وغالبًا ما رفض الناشرون أعماله على اعتبار أنها لا تتواءم مع اتجاهات العصر. ناضل الملحن النمساوي الشهير لإعالة نفسه، وكان يعمل في الغالب مقابل بدل متواضع. وهذا ما دفع أنتونين دفورجاك (1841-1904). للتساؤل في مقال نشره عام 1894 إن كان “ينبغي لنا أن نتفاجأ عندما اعتبر، في آخر أيامه حياته، أن عشرين سنتيما تكفي بدلاً لبعض أغانيه، التي أثرت في نهاية المطاف ناشري الموسيقى في ذلك الزمن؟”. بعد أن أضعفته الإصابات المتكررة بمرض الزهري، استسلم شوبرت لحمى التيفوئيد في سن الحادية والثلاثين، تاركًا للأجيال القادمة إرثًا موسيقيًا لن يتم يحظى بالتقدير الذي يستحقه إلا بعد عدة عقود. “لم يترك لورثته أكثر من عشرة دولارات، ولا حتى ما يكفي لتغطية نفقات جنازته”، كما يؤكد الملحن التشيكي في المقال نفسه.
البقاء على قيد الحياة
وإن لم يمتلك شوبرت طوال حياته الوسيلة لشراء حتى الورق لتسجيل موسيقاه، لم يعش الموسيقار موديست موسورسكي (1839-1881) وضعا أقل كارثية. فعلى الرغم من أعماله الشهيرة مثل ” Tableaux d’une exposition” (1874)، وبوريس غودونوف (1869-1872)، و” Une nuit sur le mont Chauve ” (1867)، إلا أن الملحن الروسي كافح طوال حياته المهنية للبقاء. واتسمت السنوات العشر الأخيرة من حياة موسورسكي بالتعب الجسدي والعقلي الذي أعاق إكمال العديد من أعماله، بما في ذلك La Foire de Sorotchintsyو Khovanchtchina و Salammbô. وشهدت تلك الفترة على تدهور صحة المعلم الروسي، نتيجة الفقر، وعلى الإخفاق (تعتبر موسيقاه غير متماسكة وغير تقليدية وفوضوية أحيانًا)، والعزلة وفقدان أصدقائه. وتتفاقم هذه المشاكل بسبب فترات إدمان الكحول ونوبات الهذيان الارتعاشي ونوبات الصرع والاكتئاب مما عجل موعد وصود شبح الوفاة التي وصفها الموسيقي الروسي فلاديمير ستاسوف (1824-1906) بـ”العاهرة العجوز الباردة واللزجة كالطين، والتي تصادر كل شيء”.
صائغ الفقر
وينطبق الحال على إريك ساتي (1866-1925) الذي كان يكافح باستمرار لتلبية احتياجاته الأساسية. ويُعزى فقر ساتي جزئيًا لأسلوبه الموسيقي المبتكر وغريب الأطوار والذي لم يسهل فهمه على الدوام ولم يحظ بتقدير جمهور عصره. وآثر ذلك “صائغ الفقر الطوعي” ذلك أن يعيش حياة بسيطة ومقتصدة، في ظروف متواضعة، لكن ذلك لم يكن كافيًا لضمان استقراره المالي. وزاد رفضه اتباع معايير التأليف التقليدية ونهجه الطليعي من عزلته عن عالم الموسيقى في ذلك الوقت. ولكن على الرغم من كل تلك الصعوبات، ترك ساتي بصمة موسيقية لا تمحى، وبمؤلفات مميزة بشكل خاص مثل Trois Gymnopédies (1888-1895)، وGnossiennes (1889-1897)، وسقراط (1917-1918)، و Trois Morceaux en forme de poire (1903). وأثرت أعماله على العديد من الملحنين اللاحقين، وتُعرف اليوم مساهمته الكبيرة في مجال الموسيقى الانطباعية. ومع ذلك، بقيت حياته التي اتسمت بالفقر جانبًا مؤثرًا في رحلته الفنية. ومع ذلك، تقبل مؤلف “قداس الفقراء” Messe des pauvres (1895) حالته بشكل كامل كأنه قطع نذرًا: “الفقر يأتي من الله ولا يمكننا التخلي عنه دون عصيانه”، كما نقل عنه ذات مرة.
الأذن الصماء
أما في بلاد الأرز، لطالما كان الوضع مؤسفاً، حيث لا تحظى المهن الفنية بالتقدير الذي تستحقه، وهذا يتعلق بالطبع بالفنانين الحقيقيين، المكرسين لشغفهم، وليس بالمحتالين الذين يستغلون المسرح لإظهار غرورهم، ويكرسون أنفسهم لهذه المهنة بلا أي إخلاص. يسعى هؤلاء “النجوم” المزعومون، بكل بساطة، ولكن للمفارقة أيضا، إلى كسب المال بشكل انتهازي، كما يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة. ولذلك لن يتوقف هذا المقال عندهم ولن يمنحهم الأهمية التي يتمنون. فهؤلاء هم أنفسهم أول من يديرون ظهورهم للفنانين المكرمين، حين يثقل نجاحهم المرض أو غيره من العلل. فيجد الموهوبون أنفسهم مجبرين على مواجهة الضغوط المالية وغياب شبكة الأمان الاجتماعي على الدوام. وفي هذا الصدد، تم نظم حفل موسيقي في كانون الأول/ديسمبر الماضي لمساعدة حوالي مائة فنان لبناني يعيشون “تحت خط الفقر” ويكافحون للبقاء يوما بيوم.
أحيانا، تضطر وزارة الصحة للتحرك بسرعة وتقدم الحلول مع ازدياد الضغط الاجتماعي. ولكن بالنسبة للفنانين الأقل حظا، استقبال بارد على أبواب المستشفيات وعدم توفر لمكان للعلاج. الأمر أشبه بطاولة شرف متقلبة الأحوال في لبنان.. يجلس المدعوون في مكانهم على الوقت، لكنهم يتسابقون للإستئذان حين يكون غيرهم بأمس الحاجة لوجودهم.. لقد أسمعت لو ناديت حياً.. ولكن لا حياة لمن تنادي!
مواضيع ذات صلة :
العلاج بالموسيقى: ممارسة قديمة تواكب الحداثة | لماذا تشعرنا الموسيقى بالسعادة؟ | لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟ |