ليست ذكرى
١٤ آذار ليس ذكرى. إنه كالاستقلال، حدث مستمر، والشعور به متحفز لدى كل سيادي، وإن كان يبدو للبعض صورة من ماضٍ مضى، فإنّ جذوته شاعلة باستمرار، تتصيد تقاطع الظروف لتبعث حية
كتب راشد فايد لـ”هنا لبنان”:
هل من الصواب الحديث على ذكرى 14 آذار 2005، فيما التسمية تأتي نتيجة النسيان، أو الغفلة، أو السهو، تنبّهاً إلى صيت حسن أو سيّئ يتركه الإنسانُ بعد موته، فهل هذه حال انتفاضة الإستقلال الثاني، بعد 19 سنة من الصرخة المليونية التي أيقظت العالم على لبنان يصحو من سبات فرضه نظام آل الأسد، وحليفه الإيراني، وأحكم قبضته على بلاد الأرز لنحو 30 سنة، بموافقة قوى إقليمية ودولية أرادت تصفية القضية الفلسطينية، على حساب لبنان والفلسطينيين؟
لم يكن ممكناً أن تولد الإنتفاضة لولا 14 شباط من السنة ذاتها، يوم اغتال الحقد الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بعدما بالغ في التفاني لإنهاض لبنان من ركام الحروب المتنوّعة، وإخراجه من قبضة الأسد، الإبن وقبله الأب، من دون استعداء، ما جعل من دوره المحلي والإقليمي والدولي عقبةً في وجه مشروع إقليمي يبغي تغيير وجه المنطقة العربي، وجعل حدود إيران تمتد إلى بوابة فاطمة باسم تحرير فلسطين، لحجز مقعد لطهران إلى طاولة مساومات، في وقتٍ مؤاتٍ، تجمع الأطراف الفاعلة في مصير المنطقة.
كذلك لم يكن ممكناً للإنتفاضة أن تولَد لولا تجمّع 8 آذار لإعلان استمرار التحاق أطرافه بالوصاية الأسدية تحت عنوان شكراً سوريا، في تحدٍّ فجٍّ للإرادة الوطنية الغالبة، التي دفعت دماء الشهداء كلفتها اغتيالات، وتفجيرات، أودت بحيوات قادةٍ سياسيين وأمنيين.
حقّقت الإنتفاضة أوّل مشهد وطنيّ جامع، في تاريخ لبنان، بهذا الحجم، فوق الطائفيات والحزبيات الضيقة، وحركت ركود الحسّ الوطني، والمؤشر إلى ذلك كان رفرفة العلم اللبناني وحده فوق الجميع، في ساحة الشهداء، في تعبير واضح عن وحدة الإنتماء، والانشداد إلى الإستقلال والسيادة والحرية، ومشروع بناء الدولة.
لكن الانتفاضة لم تولد من فراغ فطريقها ارتسمت مع نداء مجلس المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000، عقب انسحاب إسرائيل في 25 أيار 2000 من الجنوب، كذلك عبر الإصرار على تنفيذ اتفاق الطائف ومضمون خطاب بكركي ومصالحة الجبل عام 2001 واللقاء مع رفيق الحريري بعد التمديد للرئيس السابق إميل لحود وإنتاج لقاء البريستول.
لكن جذوة الإنتفاضة انطفأت خلال سنوات معدودات، سواء بدموية خصومها، أو بإحياء قادتها حزازاتهم الحزبية، أو قبولهم نصائح القنوات الديبلوماسية الإقليمية والدولية، فكان التحالف الرباعي الإنتخابي (2005)، الذي ضمّ السّنّة والشيعة والدروز، ممثّلين بتيار المستقبل وحركة أمل وحزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي، وبذا وفّروا مشهد المستهدف والمضطهد للعماد ميشال عون، فأجّج الأخير مخاوف مزعومة لدى المسيحيين من السعي إلى عزلهم سياسيّاً، واستند إلى ذلك ليزور (2006) النظام الأسدي تحت مظلة زيارة بلدة براد مسقط رأس مار مارون على رأس وفد على متن طائرة رئاسية سورية، تحت عنوان أنّ ما كان قد كان، موحياً بحماية شخصه، وتحالفه المستجدّ للمسيحيين المشرقيين.
أسّست الانتخابات لنزاع تحت الطاولة بين رفاق انتفاضة الإستقلال، ولتناتشهم المكاسب السياسية، وتسابقهم إلى تركيبات لوائح مرشحين بلا استراتيجية سياسية، وبينهم من كان، حتى الأمس القريب، خصماً وعدوّاً سياسياً لـ 14 آذار، وتابعاً لعنجر، ولدمشق، مباشرة، إذا ارتقى في سلّم التبعية.
بعد ثلاث سنوات، ونيّف، صار الإحتفال بيوم 14 آذار ينعقد في القاعات المقفلة، وصار دور من بقي من الحشد المليوني الشهير البكاء على الأطلال، خصوصاً عندما عقدت الصفقتان السياسيّتان بين سعد الحريري وميشال عون وبين الأخير وسمير جعجع، لتسوية سياسيّة على خطّين توصل عون إلى قصر بعبدا، لكنها لم تتأخّر في السقوط، وفضح المستور من السعي لتقاسم مكاسب السلطة، نفوذاً ومناصب، وغير ذلك، والله أعلم.
أخطاء قادة 14 آذار، وأنانيّاتهم الحزبية، ليست بعيدة عمّا وصلت إليه، لكنّ ذلك لا ينسي شعبها أنها كانت في وجه خصومها كمن يلعب الشطرنج مع ملاكم، هو يضع خطّةً للمواجهة، وخصمه لا يهتمّ سوى بإسقاطه قتيلاً فلا مراعاة أو تقدير لمعنى العيش المشترك، وحقوق المواطنة، بدليل جرّ البلاد إلى حرب تموز 2006، والحرب الدائرة حالياً في الجنوب، وقبل ذلك بسنوات اجتياح ميليشيات الثنائي الشيعي لبيروت والجبل في 7 أيار 2008، والذي كان قمّة في المراهقة السياسية، إذ تقوقع القادة في مخابئ آمنة، بدل أن يُواجهوا بالدعوة إلى عصيان مدنيّ يشلّ الحياة العامة ويقول للمعتدين تريدون السيطرة؟ هاكم المدينة تتجاهلكم.
14 آذار ليس ذكرى. إنّه كالاستقلال، حدث مستمرّ، والشعور به متحفّز لدى كلّ سيادي، وإن كان يبدو للبعض صورةً من ماضٍ مضى، فإنّ جذوته شاعلة باستمرار، تتصيّد تقاطع الظروف لتبعث حيّة، وما ثورة 17 تشرين الأول أو الاحتجاجات اللبنانية 2019-2021، إلّا مشهد قابل للتكرار وهو سلسلة من الاحتجاجات المدنية، التي اندلعت في البداية بسبب الضرائب المخططة على البنزين والتبغ والمكالمات عبر الإنترنت على تطبيقات مثل واتساب، لكن سرعان ما توسّعت لتصبح إدانة على مستوى الدولة للحكم الطائفي، وركود الاقتصاد، والبطالة التي بلغت 46%. وهذه التوابل متوافرة في لبنان، تنتظر الشرارة المؤاتية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
الجرموز | من سيسرق المليار؟ | قربة مثقوبة |