“الموت”.. الذي يسقط من السماء
ترجمة “هنا لبنان”
كتب يوسف معوض لـ Ici Beyrouth:
هل كان أحدهم ليظنّ أنّ الطحين قاتل؟ من كان ليتصور أن نسمع عبارة “مجزرة الطحين” كما حدث يوم الخميس 29 شباط 2024؟
ففي ذلك اليوم، أطلق الجنود الإسرائيليون النار على الحشود، الخطيرة على ما يبدو لأنها تتضور جوعاً ولأنها هرعت باتجاه قافلة الغذاء.. ثم، في الوقت الذي تعتقد فيه أنّ صفحة مأساة المساعدات الإنسانية قد طويت، تأتيك صاعقة جديدة وتتسبب طرود المساعدات الإنسانية نفسها التي أسقطتها طائرة في 8 آذار، بمقتل خمسة أشخاص وإصابة عشرة آخرين في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة. وكأنّ اللعنة حلت على شعب بأكمله!
الصدقة من البحر
ولكن قبل كل شيء، لا بد من التذكير بأن 2.2 مليون فلسطيني يعيشون أسرى الجوع والعطش في قطاع غزة الضيق. وبينما تتدافع دول العالم لوضع حد للدمار، يتعلق الأمر أولاً بإسماع يحيى السنوار وبنيامين نتنياهو صوت المنطق.
فبعد فشل الولايات المتحدة في فرض أي نوع من الهدنة على الطرفين المتحاربين، قررت خوض عملية إنسانية كبيرة لنقل المساعدات الغذائية إلى الجيب المنكوب. والمخطط هو “رصيف بحري مؤقت قبالة سواحل غزة يسمح لسفن الشحن بنقل البضائع إلى قوارب أصغر والتفريغ على طول جسر مؤقت لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة”. وذلك بهدف تقديم أكثر من مليوني وجبة يومياً للمحتاجين. وأكد المتحدث باسم البنتاغون بات رايدر، في هذا السياق أنّ الأمر سيتطلب تدخل أكثر من ألف جندي أميركي لتركيب هذا المنفذ. وأضاف أنّ بعض الإجراءات والترتيبات اللازمة ستتخذ بالطبع كي لا تطأ أقدام عناصر الجيش الأميركي الأرض.. لأسباب أمنية طبعاً، ولكن أيضًا والأهم هو عدم احتكاك هؤلاء الجنود مع الجياع! لن يكون ذلك مشهداً جميلاً أليس كذلك؟ والأهم أن الإحتكاك يعني أنّ الجنود سيرون عن قرب صور الجوع وسينقلون قصته المؤثرة.
ولنلحظ أيضًا، وبشكل أخطر، أن عملية البناء ستستغرق 60 يومًا على الأقل.. هذا إن لم يطرأ أي عائق، وهذا يعني شهرين من الإنتظار لإغاثة سكان على حافة المجاعة.. تأخير بأثمان باظهة لمهمة طوارئ!
الفتات.. بعد فوات الأوان
أخيراً وقد أدركت بروكسل وواشنطن أنّ المجاعة هي المشكلة الأكثر إلحاحاً، أعلنتا الجمعة 8 آذار عن ممر بحري بين قبرص وغزة. هكذا يريد الغرب تطهير يديه من الكارثة التي لا يمكن حلها كي لا يقال يوم الحساب إنّ دول شمال الأطلسي، التي تعطي الدروس لبوتين، أخفقت في التزاماتها ولم تتحرك في الوقت المناسب لمنع المأساة الكبرى!
ولدولة إسرائيل حصة في هذا المسعى الإعلاني، فها هي “ترحب” بالمبادرة التي “ستضمن زيادة المساعدات لغزة بعد فحص أمني يتوافق مع المعايير الإسرائيلية”، حسب ما نشر المتحدث باسم وزارة الخارجية ليؤور حياة على تويتر. وفي الواقع، ستتحكم وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي تابعة للجيش الإسرائيلي المسؤول عن إدارة الأراضي المحتلة، بدخول الغذاء إلى قطاع غزة. ومن السهل تصور مدى حرص هذه السلطات على تسهيل استلام المواد الغذائية وضمان وصولها إلى وجهتها!
إن عمليات الإنزال الجوي أو الممر البحري غير قادرة على إغاثة السكان المحكوم عليهم بنهاية فظيعة بشكل فوري. وحدها الطرق البرية المفتوحة، من مصر ومن إسرائيل، قادرة على القيام بذلك. وهذا لم يؤخذ حتى بعين الاعتبار.
الماضي والحاضر
كان أحد المراقبين الناطقين باللغة الإنجليزية ليصرخ مندداً باجتماع صوري ليس أكثر وبمحاولة التستر! لقد توقع اجتماع الدول كارثة إنسانية وتركها تحدث؛ وهذا يعني أنه مذنب بارتكاب جريمة عدم مساعدة الأشخاص المعرضين للخطر. علاوة على ذلك، الخديعة لم تنطل على أهل غزة وهم يعلمون أن ما يحدث مجرد مناورات للعلاقات العامة وهي خديعة لصرف الانتباه. ولديهم ذلك الشعور بأن واشنطن لا تريد وضع حد للمعاناة أو أن البيت الأبيض غير قادر على ذلك.
وبالعودة للماضي، وتحديداً العام 1956، أدان دوايت أيزنهاور رئيس الولايات المتحدة آنذاك، العدوان الثلاثي الذي شنته المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل لاستعادة السيطرة على قناة السويس. كان المشروع بنظره أقرب للقرصنة. فما كان به إلا أن أمر الدول الحليفة الثلاث وبشكل حازم، بالانسحاب الفوري من مصر. وهذا ما حصل على الفور. وأتى إصراره الثمار.
أما اليوم، تكفي مكالمة هاتفية واحدة من بايدن إلى نتنياهو لحل المشكلة. تكفي ضربة واحدة بحزم على الطاولة، أو التهديد بقطع إمدادات الأسلحة والذخيرة لإيقاف الموت البطيء الذي يتسلل إلى بيوت الأبرياء.. الأبرياء نعم لأن مقاتلي حماس لا يمكن أن يعانوا من النقص بوجود احتياطيات الماء والغذاء.
وهل من داعٍ أخيراً للتذكير بشكل الأطفال وهم يتضورون جوعا؟ روايات المجاعة الكبرى في جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى تفصح بالكثير.. البطون المنتفخة والعيون المهلوسة والمجموعات المتدفقة إلى شوارع المدن الساحلية وهي تهيم بحثاً عن ملاجئ..
مواضيع ذات صلة :
أنظار لبنان نحو الرياض.. وتعويلٌ على “موقف عربي جامع” لوقف الحرب! | “ليست دقيقة”.. الخارجية القطرية تُعلّق على انسحابها من الوساطة في غزة! | قطر تنسحب من مفاوضات وقف إطلاق النار.. ماذا يعني ذلك ولماذا؟ |