الفرز الطائفي خطوةً خطوة؟
اليوم، الخلاف طائفي ومذهبي حول قرار الحرب والسلم مع إسرائيل، وهو طائفي ومذهبي في مسألة السلاح. وهو كذلك في التعاطي مع الملفات الأمنية الخطرة.
كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:
في غضون أيام قليلة، تقلبت الهواجس سريعاً في لبنان، بين مخاطر الحرب الإسرائيلية والخوف من فتنة داخلية على خلفية التوترات التي تسبب بها مقتل باسكال سليمان. وقد يبدو للبعض أنّ اللبنانيين اعتادوا العيش على درجات عالية من التوتر، بحيث أنّ كل صدمة جديدة تتكفل بمحو الصدمة السابقة. لكن هذا التقدير ليس صحيحاً. فالاحتقان في لبنان تتراكم ترسباته ولو ببطء.
ويكمن الخطر في أنّ الأزمات كلها، بما فيها الحرب على الحدود مع إسرائيل، تتّخذ في النهاية أبعاداً طائفية. فاللبنانيون، عموماً، هم “أبناء طوائف”. والهواجس والصدمات التي تصيبهم تحفر عميقاً في الوعي الجماعي داخل كلّ طائفة، فيرتفع فيها منسوب الاحتقان. ويوماً بعد يوم، يتقدم البلد خطوة في مناخات الفرز الطائفي، بإدارك من زعامات الطوائف أو بجهل منها.
اليوم، الخلاف طائفي ومذهبي حول قرار الحرب والسلم مع إسرائيل، وهو طائفي ومذهبي في مسألة السلاح. وهو كذلك في التعاطي مع الملفات الأمنية الخطرة، من اغتيالات 2005 حتى اليوم، وفي التحقيقات في تفجير المرفأ، وملف رئاسة الجمهورية، وصولاً إلى باسكال سليمان.
وفي العادة، يكابر الناس في لبنان ويحاولون إخفاء احتقاناتهم الطائفية. وهذا ما يسمى “الكلام على الطريقة اللبنانية”، أي قول الأمور بطريقة ملتبسة تخفي المشاعر الحقيقية، ربما حرصاً على البقية الباقية من “التلاحم الوطني”. ولكن، في صالونات الطوائف وغرفها المقفلة، الكلام كبير وخطِر. ومن الخطأ، ومن غير المجدي، تجاهله.
للتذكير: لم ينسَ المسيحيون الرئيس بشير الجميل بعد 42 عاماً على اغتياله. ولم ينسَ السّنّة الرئيس رفيق الحريري بعد 19 عاماً على اغتياله. ولم ينسَ الدروز الزعيم كمال جنبلاط بعد 47 عاماً على اغتياله. والأجيال الجديدة في هذه الطوائف “تتوارث” حالة “عدم النسيان”.
وللتذكير أيضاً، المسيحيون والسنّة والدروز يشعرون بأنّهم هم المستهدفون بالاغتيالات السياسية دائماً.
ويستنتج باحثون أنّ التنافر في لبنان تحوَّل فعلاً إلى “طلاق نفسي” يترسّخ على أرض الواقع تدريجاً، ويهدد بالطلاق الواقعي.
ويورد هؤلاء الباحثون عينات “فاقعة” من حالات التنافر التي عاينوها في الأعوام الأخيرة، وفيها تزايد تعبير المسيحيين والسنّة والدروز عن يأسهم من “الستاتيكو” السياسي الذي يتحكّم بلبنان حالياً، وباتوا ينظرون بتشاؤمٍ إلى مستقبل الصيغة التي تنظّم العلاقة بين اللبنانيين، والتي تعرّضت لاهتزازاتٍ عميقة منذ بداية الحرب في العام 1975.
اليوم هناك تشابك للصراعات في لبنان:
1- الشيعة يتفرّدون بمقاتلة إسرائيل، كما يتفرّدون بمساومتها على أثمان التسوية.
2- الطوائف الأخرى، لا علاقة لها بالجبهة مع إسرائيل، بل تطالب بوقفها وتخشى أن تتمدّد وتدمّر البلد. لكنّ هذه الطوائف تقاتل سياسياً لرفع سيطرة إيران- وسوريا إلى حدٍّ معيّن- من خلال الفريق الشيعي.
3- هناك تنافر داخلي وصراع على السلطة والامتيازات والمكاسب، يتخذ طابعاً طائفياً ومذهبياً أيضاً. فالشيعة (المقصود هنا قيادتهم السياسية وما لها داخل الطائفة) لا يريدون تفويت الفرصة السانحة لتثبيت موقعهم الجديد القوي في السلطة، فيما يحاول المسيحيون والسنّة والدروز منعهم من ذلك والحفاظ على التوازنات القديمة.
في ظلّ هذا التنافر المتنامي حول مسائل جوهرية، يصبح مُهِمّاً التفكير بوقف الانزلاق نحو تفسّخ البلد واقعياً. وتصبح الصدمات والاغتيالات التي تثير الاحتقانات الطائفية مدعاة قلق. ومن علامات الاستياء التي يعبّر عنها قادة المسيحيين دعواتهم جميعاً إلى اللامركزية السياسية الموسعة أو الفدرالية. وهذه النزعة إلى نوع من استقلالية الطوائف داخل الكيان لم تكن بهذه القوة عند المسيحيين حتى في ذروة التقاتل الطائفي بين 1975 و1990.
وكذلك، في الوسط السنّي يسجل الباحثون حراكاً متسارعاً لملء فراغ المرجعية السياسية التي تتّخذ القرارات داخل الطائفة، لأنّ البلد مقبل على خيارات وطنية داهمة. ولذلك، برزت أخيراً مطالبة الرئيس سعد الحريري بالعودة. فالسنّة يعانون إحباطاً سياسياً، ولو بدرجة أدنى من المسيحيين. وصحيحٌ أنّ موقع رئاسة الحكومة “ورث” صلاحيات رئاسة الجمهورية، لكنّ هناك استياءً سنياً متزايداً من كون كل “الصلاحيات” في البلد ممسوكة في مكان آخر.
ويصل أحد الباحثين إلى استنتاج دقيق، فيقول: خلال 15 عاماً من التقاتل، كان زعماء الحرب يشحنون الوضع طائفياً ومذهبياً، وينادون أحياناً بالطلاق، لكن القواعد الشعبية بقيت عموماً ترغب في استمرار الانفتاح. وأما اليوم، فقد باتت التعبئة على مستوى الجماهير قبل القيادات.
وفي هذا المناخ، حيث الأرض باتت جاهزة، يجدر التحسّب بجدية لأي صدمة أو هاجس طائفي، خصوصاً أنّ الشرق الأوسط كله يغلي ويتقلب، وقد يكون العديد من كياناته قيد إعادة التركيب.
مواضيع مماثلة للكاتب:
صفقة بين ترامب والأسد تقطع السلاح عن “الحزب”؟ | لا سلاح في شمال الليطاني أيضاً | استنفار قيادي درزي منعاً لأي مغامرة |