عن تحديات الحرب وآفاقها
كتب Charles Chartouni لـ“Ici Beyrouth”:
ما عادت مسألة السعي لتدمير المنصات العسكرية لحماس وحزب الله مجرد شكوك بل دخلت في دائرة الاستراتيجية التدريجية، وهذا ما يطرح علامات استفهام جوهرية حول التكاليف المترتبة عليها والأهداف السياسية التي ينبغي أن تؤطر عملية التنفيذ الضخمة. وتخفت إمكانية التوصل إلى حل مع إصرار حماس مراراً على رفض أي حل من شأنه أن يقوض أوهامها حول السيطرة على غزة. وبالتوازي، يواظب حزب الله على تكتيكات المماطلة وعرقلة استعادة سيادة الدولة اللبنانية وتطبيق القرارات الدولية، بينما تكرر إسرائيل بدورها عزمها على تغيير الوضع الاستراتيجي الذي كلفها انتكاسات أمنية خطيرة. وبالتالي، عوضاً عن المراوغة غير المجدية حول الرغبات المستحيلة، تتطلب الحكمة إلى حد ما فهم القضايا المتعلقة بتطور ديناميكية الصراع. أما الوساطة الأميركية وخطتها لكبح التصعيد التدريجي فلا تزال تتعثر في مواجهة ازدواجية الموقف الإيراني والسخرية المدمرة ليحيى السنوار، الذي يعتقد بقدرته على كسر الحصار الإسرائيلي وعكس الديناميات القاتلة للحرب الجارية.
معركة رفح ستحصل على الرغم من الصعوبات العملياتية والإنسانية التي فرضها النزوح الجماعي من شمال غزة، وعلى الرغم من تعقيدات القضايا العسكرية المطروحة وصداها الإقليمي والدولي. وستفتقر حرب غزة لأي معنى ما لم يتم تدمير المنصات العملياتية لحماس وحزب الله وتقليص مكانتهما السياسية. وعلى عكس غزة، لن يواجه الجيش الإسرائيلي القيود الإنسانية وتأثيرها على ميدان عمله في المسرح اللبناني، حيث سيكون نطاق عمله أكبر بكثير وأقل تقييدا. وبالتالي، نحن أمام سيناريوهين بمعادلات معقدة، وأولويات متأرجحة وأطر زمنية متداخلة.
وعلى أي حال، لا بد وأن إسرائيل على دراية بالمخاوف السياسية الرئيسية المرتبطة بحملة رفح العسكرية، حيث قد يعرض أي انحراف عن المسار فرص التطبيع التي بدأت مع “اتفاقيات أبراهام” للخطر ويضر بمصداقيتها دولياً. كما يجب عليها التخلص من قيود اليمين الديني والقومي المتطرف ونظرته للعالم، وسياسات الانسحاب الناجمة عن الشعور بعدم الأمان بعد 7 أكتوبر 2023 وحسابات بنيامين نتنياهو ومسألة مستقبله السياسي، من أجل ربط هذا المشروع العسكري الحتمي بآفاق سلام شامل بالتفاوض مع الفلسطينيين. ذلك أن الإنغلاق الذهاني في البيئة الإسرائيلية والانسحاب الحصري بناء على توترات الهوية والأمن سيكلف إسرائيل فرص سياسة التطبيع والاندماج في نظام إقليمي شامل متحرر من رهون السياسة الإيرانية ومنطق الحروب الدائمة والفوضى المؤسسية.
ومن المستحيل تصور حلحلة شاملة ما لم تتغير اللعبة الاستراتيجية ويعاد خلط الأوراق وتحديد معايير الإطار الاستراتيجي. باختصار، الجوهر يكمن في تغيير اللعبة والجهات الفاعلة وإعادة تحديد إحداثيات المسألة الإسرائيلية – الفلسطينية وأطرها الاستراتيجية. وهذا يفترض مسبقاً استراتيجيات احتواء هندسية متغيرة في مواجهة إيران، وإعادة تأهيل الديناميات الإقليمية المتمركزة حول المحور الأميركي السعودي، وإعادة تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني حول خطة سلام، والأمن الدولي والتحكيم الدبلوماسي.
وحيث أن تحييد حماس وأمثالها يضر بسياسة “احتواء” إيران، يمثل المخرج الإلزامي لكسر عمليات الإغلاق المفروضة على النظام الإقليمي. لسوء الحظ، كان بإمكان الفلسطينيين تجنب حرب طويلة الأمد لو أنّ حماس اعترفت بالهزيمة، وأبدت استعدادها لإعادة التواصل مع السلطة الفلسطينية للتوافق على خط سياسي وإعادة إشراك المجتمع الدولي. لكن الحال ليست كذلك، فحماس وسياسة “وحدة ساحات القتال” مجرد روافد لسياسات القوة الإيرانية، وتدمير غزة والمناطق الحدودية في جنوب لبنان ليست سوى تبعات هذه السياسة. كما أن الرؤية العدمية السائدة بين الإسلاميين الموالين لإيران، ليست عرضية، بل خيار متعمد يعادل رؤية تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية.
لا مخرج من المآزق الأمنية والسياسية المستمرة ما دام الإطار السياسي الاستراتيجي هو نفسه، وما لم تدخل جهات فاعلة جديدة، ويتم وضع حد للمآزق الأيديولوجية وسياسات الحصار المتشابكة والجمود الدبلوماسي. خصوصاً وأن هذه السياسات دمرت مكاسب أربعة عقود من الوساطة الدبلوماسية المثمرة (من كامب ديفيد إلى أوسلو) وأعادت تحديد مخاطر صراع متغير ومستمر. ويدخل مشروع حماس العشوائي في إطار الاضطرابات الجيوستراتيجية الجذرية التي تحولت إلى كارثة، ولكن قبل كل شيء في إطار المشروع الإيراني الإجرامي الذي استغل حالة الحصار لتخريب مشروع السلام الأميركي-السعودي ولإعادة صياغة الديناميات الإقليمية بما يخدم أولوياته الاستراتيجية.
لم يعد مسار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على حاله بعد 7 أكتوبر، فقد أعادت طبيعة الهجوم تحديد الأولويات وأدت إلى هجوم مضاد من الجانب الإسرائيلي. وعلى الرغم من حدة الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي، وضعت جانبا لصالح استراتيجية مشتركة للخلاص الوطني همشت القضايا المتعلقة بالمشروع الوطني الإسرائيلي ومعضلاته المستمرة. انطلاقا من هذا الواقع الجديد، يجب على القوى السياسية في إسرائيل، في البيئة الفلسطينية وعلى الصعيد الدولي، التموضع لإعادة معالجة مسألة السلام على أساس الاعتراف المتبادل والحق في تقرير المصير والأمن غير المشروط كما في القرارات الدولية واتفاقات السلام السابقة. كما من الضروري استباق أي عودة مباشرة أو أي تسلسل للتطرف، لإعطاء فرصة لصانعي السلام وردع المخربين على كل الجبهات.