حرب لا مفر منها
ترجمة “هنا لبنان”
كتب Charles Chartouni لـ “Ici Beyrouth“:
يعيدنا هجوم الحوثيين على تل أبيب وصرامة الرد الإسرائيلي إلى مضاعفات حرب تجد جذورها في الديناميكيات العديدة للحرب الباردة الجديدة. كما تستدعي الجدوى العسكرية والتلميحات السياسية المرتبطة بها التأكد من حقيقة النسخة الحوثية ومعقوليتها، مع الإشارة إلى سعي منفذي الهجوم لإخفاء مصدره تجنباً للرد الإسرائيلي المدمر. وفي الواقع، يعكس حجم الرد بشكل كاف، درجة الإصرار في السياسة الدفاعية الإسرائيلية، بغض النظر عمن يصوغها أو عن تحدياتها.
وبغض النظر عن الأماكن المستهدفة، سواء في ميناء الحديدة في اليمن أو بيروت أو دمشق، لا تميز إسرائيل في الرد لا في الوسائل ولا في الأهداف ولا في درجة الفتك. وهكذا، فتحت ساحات العمليات التي استخدمتها إيران واستراتيجية المتغيرة، الطريق أمام سيناريوهات الحرب، ذات النطاقات المتعددة والتي تتراوح من الإرهاب إلى الحرب الشاملة، وحيث لا يستبعد أي سيناريو. هذا الإطار المتضارب يتطور في نمط متواصل مفسحاً المجال أمام جميع التشكيلات والمتطلبات الظرفية.
كما أنّ ديناميكيات الصراع التي اندلعت منذ 7 أكتوبر 2023 تفسر التطورات اللاحقة على أسس مختلفة: النظام الإيراني يستغل ساحات العمليات التي تغطي قوس الصراع في الشرق الأوسط بأكمله في خدمة حرب استنزاف تهدف لإضعاف خطوط الدفاع الإسرائيلية، وحماية عسكرة الطاقة النووية الإيرانية وإرساء أسس جيوسياسية إقليمية بديلة بالتنسيق مع المحور الشمولي الجديد الذي يتم إنشاؤه حاليًا.
وسيصعب فهم الإندلاع المتكرر لأعمال العنف التي تعقد بشكل تراكمي، مسار هذه الحرب وغاياتها المتباينة، دون رؤية متكاملة لديناميات الصراع المستمر. كما أن توازن القوى الذي أنشأه النظام الإيراني تدريجياً من خلال سياسات السيطرة على الشرق الأوسط بأكمله، بات بمثابة منصة لسياسات التخريب الإيرانية التي تعمل على أساس مزيج من السياسات الانقلابية والإرهاب والإجرام المنظم.
وأياً كانت الخطوات الدبلوماسية المتخذة لكبح جماح موجات العنف الدورية، ستصطدم في نهاية المطاف بعقبة رئيسية، تتمثل في الأهداف الشمولية الإسلامية. ويكمن البديل الوحيد لسياسة زعزعة الاستقرار هذه في تغيير ميزان القوى، وسياسات الاحتواء المتغيرة وهزيمة المد الشمولي. وبخلاف ذلك، اليقظة ودعم المعارضة السياسية والسياسات الانفصالية التي تفرضها الضرورات الجيوسياسية والجيو-استراتيجية مطلوبان أكثر من أي وقت مضى.
وليس النظام الإسلامي الإيراني سوى أحد أشكال الإسلام السياسي، المنبثق عن حركة “الإخوان المسلمين”، التي ألهمت تنظيم القاعدة وداعش وتوابعهما في منطقة آسيا الوسطى، وهو يعمل على أساس الاختلافات المنهجية والعملياتية والاستراتيجية الخاصة به. ولا يمكن فصل الصراعات الحالية عن التغيرات الأيديولوجية والاستراتيجية على المستوى الإقليمي وتأثيرها على الديناميكيات السياسية في منطقة فقدت اتجاهاتها ومرتكزاتها، وحيث ما عاد انهيار النظام الإقليمي محض صدفة.. نحن نواجه إخفاقات متضاعفة لحداثة فاشلة.
ولم تتمكن الوساطات الدبلوماسية في غزة وأنظمة الهدنة وإطلاق سراح الرهائن وتبادل الأسرى، والعمل الإنساني واستمرار القتال من إحداث تغييرات على مستوى غايات هذه الحرب. وتواصل حماس معركتها متجاهلة فداحة الخسائر البشرية (38 ألف ضحية، وعشرات الآلاف من الجرحى والمصابين بإعاقات مدى الحياة، وغيرها)، والكارثة الحضرية والبيئية والإنسانية (تدمير ونهب 60% من المنطقة، و40 مليون طن من الأنقاض والتهجير الجماعي والطوارئ بمختلف أنواعها: الغذاء والدواء والإيواء والتعليم وغيرها)، فضلاً عن جرائم الحرب الناجمة عن سياسة الدروع البشرية واستغلال البنية التحتية الحضرية لأغراض عسكرية.
ذلك أن ما يهم في نهاية المطاف هو بقاء حماس واستمرار سياسة إيران الرامية إلى زعزعة الاستقرار. وقد تسبب تسييس محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية (وعلى رأسها اللبناني نواف سلام وداعميه ونظام جنوب أفريقيا)، بإساءة للعدالة الدولية لصالح أجندات سياسية واضحة، مما فاقم الصراعات وأضعف المؤسسات الدولية وقدرتها على التحكيم.
وفي المقابل، انتهت استراتيجية “وحدة ساحات القتال” الإيرانية بخلق مثلث من الأزمات يجمع بين غزة والأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان وجنوب غرب سوريا. كما دفعت سياسة القبضة المتشددة بإسرائيل لانتهاج سياسة الهجوم المضاد التي تسعى لكبح استراتيجية التطويق ولتغيير ميزان القوى وإعادة تشكيل الوضع الجيوسياسي الراهن. كما أن عجز الأنظمة العربية والقصور السياسي للمملكة العربية السعودية، والغموض المحيط بقطر وتصميم الهجوم الإيراني وانشغال الديمقراطيات الغربية بالانتخابات وانهيار النظام الإقليمي بين الدول.. كلها أمور تجعل من الهجوم الإسرائيلي المضاد، أمراً حتمياً ولا يمكن تجنبه من أجل احتواء المخاطر المستمرة وتغيير الديناميكية الإقليمية. ذلك أنّ الأمر ليس محصوراً بالمصلحة الإسرائيلية بالمعنى الضيق فحسب، بل بإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية”.