حلّ العقد المستعصية

ترجمة “هنا لبنان”

كتب Charles Chartouni لـ “This Is Beirut“:

تبعث الحروب الدائرة في غزة وجنوب لبنان وجنوب غرب سوريا كثيراً من الحيرة، بحيث لا يمكن استباق أو حتى تخيل نتائجها. فما الذي يغذي هذه الحيرة وما الذي يصعب الوصول لحل لدورات العنف المتشابكة وللدمار المستمر؟ بغض النظر عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الأزلي، والطبيعة الإشكالية للدولة الإقليمية في الثقافة السياسية العربية، يرتبط استمرار “الصراعات الاجتماعية المطولة” في الأساس باستغلالها بشكل متناوب وإخضاعها لسياسات القوة والتضليل الإيديولوجي.

ومع ذلك، تكتسب إشكالية تشكيل الدولة في عصر ما بعد الإمبراطورية العثمانية، أهمية كبرى. وترتبط الصعوبات في المقام الأول بعدم قدرة الجهات الفاعلة على التكيف مع معايير الدولة الإقليمية والدستورية، وحل النزاعات من خلال التفاوض والسياسة التوافقية، عدا الاعتماد على التدخلات الأجنبية باستمرار لتعزيز التحصينات السياسية والإيديولوجية.

وفي هذا السياق، لا تبدو السيطرة الإيرانية (التي لا جدال فيها) على المشهد السياسي الفلسطيني عرضية، بل تعكس سمة ميزت سياسات النظام الإيراني على مدى العقد الماضي. فالفلسطينيون، الذين صاغوا هويتهم الوطنية على خلفية صراعهم مع مجتمع “اليشوف” اليهودي ما قبل القومي والأمة الإسرائيلية الناشئة حينذاك، فشلوا في تخطي إنكار الأمر الواقع الإسرائيلي، واستبدلوا استقلالهم الوطني بنمط كارثي من التبعيات الراسخة.

وبالمقابل، انشغل مجتمع “اليشوف” ودولة إسرائيل الناشئة ببناء المؤسسات، والتعامل مع محنة يهود أوروبا بعد “الهولوكوست”، والنضال من أجل بقائهم والانخراط في حوار مع البيئة العربية في مراحل مختلفة، وإعادة تعريف العلاقة بين اليهودية والقومية ونطاق الصهيونية وما بعد الصهيونية، ومعايير اندماج المواطنين “العرب الإسرائيليين” (20/100 من إسرائيل)، بالتوازي مع التفاوض مع المكونات الفلسطينية المختلفة.

ولكن للأسف، سيطر انعدام الثقة المتبادل والتطرف والعنف الدوري على الصراع وعاد إلى مرحلة سابقة من العنف وغياب الأفق السياسي. وتجذرت الأسئلة الحاسمة حول الاعتراف والمعاملة الأخلاقية المتبادلة في عمق المآزق السياسية المؤسسية وأعمال العنف. كما أنه ليس من العملي تماماً من وجهة نظر حل الصراع، افتراض الصلاح الأخلاقي والاستبداد السياسي.

هذه النبذة القصيرة تبرر التباين في الثروات السياسية وتأثيرها على المسارات الوطنية المختلفة، وإدانات الصراع الوطني الذي فشل في التغلب على فخاخ الإنكار والعدمية السياسية وسيناريوهات اللعبة الصفرية.

كما تعرضت القرارات والوساطات الدولية للتقويض وللإحباط عمداً وكأنّ هذا الإرث الغني لم يكن موجودًا أبدًا. وهكذا، عاد الفلسطينيون إلى التطرف العبثي وسياسات القوة البديلة، وتخلى الإسرائيليون بدورهم عن حل الدولتين وكذلك فعل الفلسطينيون.

نحن نشهد تحولًا دراماتيكيًا يتم فيه تهميش الأجندة الفلسطينية وإخضاعها بشكل قاطع لسياسات القوة الإقليمية والدولية الثقيلة. كما وضع استيلاء الوكالة الإيرانية السياسية والأخلاقية على الفلسطينيين هؤلاء مع اللبنانيين والسوريين واليمنيين على مسار سياسي مدمر، حيث يقوض العنف والصراعات المفتوحة كل فرص الاستقرار السياسي.

ومن عجيب المفارقات أنّ الإيرانيين فرضوا أجندتهم على المؤتمر الإسلامي، على الرغم من أنّ أعضاءه يدركون تناقضات هذه الأجندة و”آثارها المعاكسة” بشكل كامل. وبالتالي أصبحت إسرائيل اللاعب الإقليمي الوحيد القادر على كبح جماح القوة الإيرانية وتحقيق التوازن في منطقة شديدة التقلب.

ويشكل الاغتيال المزدوج لوكلاء إيرانيين تحدياً لسياسة القوة الإيرانية وللمعادلة الاستراتيجية المفروضة. كما يطرح علامات استفهام حول قدرة المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة على تغيير أو تعديل مسار القوة الإيرانية المنخرطة في سياسة التخريب، وتحويل المنصات الجيوسياسية إلى أدوات لزعزعة الاستقرار السياسي وإشعال الحروب الأهلية الجامحة.

ويشير تعيين يحيى السنوار نفسه كخليفة لإسماعيل هنية للنفوذ الطاغي للنظام الإيراني والتبعية الكاملة للسياسة الفلسطينية. ويصعب تخيل كيف يمكن للأولويات الفلسطينية أن تطغى في الظروف الحالية، على الأولويات الاستراتيجية الإيرانية وضرورات بقاء النظام الإيراني.

ذلك أنّ بقاء النظام الإيراني الذي فقد شرعيته يعتمد على قدرته على زعزعة استقرار النظام الإقليمي، وعسكرة الطاقة النووية، وإضفاء الطابع المؤسسي على الفوضى، وتوسيع رقعة الأراضي “الجرداء” أمنياً وسياسياً. والواقع أنّ الفلسطينيين أضحوا ضحايا العمى الاستراتيجي من جديد وإخضاعهم لسياسات القوة وعدم قدرتهم على التوافق على منصة متماسكة للتعامل مع عدوهم الإسرائيلي.

بالإضافة إلى ذلك، أثبت الاجتماع الفلسطيني الأخير الذي دعت إليه بكين هشاشة الدبلوماسية الصينية وعدم جدواها. فالفلسطينيون أكثر انقساماً من أي وقت مضى ومنشغلون عن أولوياتهم السياسية، والإسرائيليون متخوفون بشكل كبير من نتائج الحل التفاوضي.

ويكفي أن سلسلة الأحداث العسكرية والسياسية الأخيرة توقظ مع الأسف، في النفوس الحقيقة القاتمة للشرق الأوسط.. منطقة هائمة لا بوصلة أخلاقية لها، ولا ركائز استراتيجية حتى!

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us