“البيجر” و”الووكي توكي” والدرس القاتل


خاص 19 أيلول, 2024

كارثة تفجير أجهزة “البيجر” و”الووكي توكي” خلال اليومين الفائتين أوقعت “الحزب” في صدمة يصعب تجاوزها. فهو لا يملك أي قدرة على مجاراة إسرائيل في هذا المجال. بل إنّ إيران وسائر حلفائها في المحور الشرقي، كالصين وروسيا، هم جميعاً دون مستوى التقدم الإسرائيلي في هذا المجال

كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:

لو لم تشعل “حماس” حرباً في غزة، ومعها أشعل “حزب الله” حرب مساندة في الجنوب، لكان وضع التنظيمين في مواجهة إسرائيل أفضل بكثير، ولبقيت بيئات لبنانية معينة مقتنعة بمقولة “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”. وأما اليوم، فالمارد الذي يريد إلقاء إسرائيل في البحر يقف حائراً: كيف يرد على هجماتها التي لم يشهد العالم مثيلاً لها؟

وبمعزل عن التقويم “التقليدي” لنتائج الحروب، حيث قاربت أن تنتهي في غزة (والضفة الغربية) بخروج “حماس” من المشهد، وتُقارب أن تنتهي في الجنوب بتفوق كبير بالنقاط على “حزب الله”، فإن هناك تحولاً مفصلياً خطراً في طبيعة المواجهة فرضته إسرائيل على الجميع. فهي خرجت من الحرب “التقليدية”، حرب الأنفاق والقنابل والصواريخ التي استعد لها “حزب الله” و”حماس” وسائر حلفاء إيران، وأخذتهم إلى مواجهة لا يعرفون شيئاً عنها. إنها حرب الترصد المعلوماتي والاتصالات والذكاء الاصطناعي الكفيلة بإحكام السيطرة بسهولة، لا على تنظيمات مسلحة في حروب الشوارع والاستنزاف، بل على جيوش بكاملها. فخطوط الاتصال داخل الجيوش هي كالجهاز العصبي الذي ينقل الإشارات والمعلومات داخل الجسم، وبها يتم تشغيل الحواس كلها. ومن دونها يصبح الجسم مجرد كتلة من لحم ودم لا حياة فيها ولا حراك.

هذا تماماً ما تحاول إسرائيل أن تفعله اليوم بإنجازاتها السيبرانية والأمنية في المواجهة مع “حزب الله” وترسانته الصاروخية. فقد تدرجت من الرصد الإلكتروني البسيط للهواتف الثابتة، إلى المطاردة الدقيقة للكوادر والمقاتلين عبر أجهزة الخلوي، إلى تحويل أجهزة الالتقاط كلها من هواتف وسماعات وكمبيوترات إلى جواسيس نقالة أو عبوات ناسفة تغدر بحامليها.

كارثة تفجير أجهزة “البيجر” و”الووكي توكي” خلال اليومين الفائتين أوقعت “الحزب” في صدمة يصعب تجاوزها. فهو لا يملك أي قدرة على مجاراة إسرائيل في هذا المجال. بل إن إيران وسائر حلفائها في المحور الشرقي، كالصين وروسيا، هم جميعاً دون مستوى التقدم الإسرائيلي في هذا المجال، وفق ما يقول بعض الخبراء. وهذا التفوق في مجال الرصد والسيبرانية من شأنه أن يحسم الحرب مع “حزب الله” وسائر المنظومة الحليفة لإيران، ولعقود آتية.

السيطرة في المجال السيبراني قد تجعل ترسانة الصواريخ التي يحتفظ بها “حزب الله” ضعيفة الفاعلية إلى حد بعيد، لأنها من دون المعلوماتية التي تتولى توجيهها بدقة إلى الهدف تتحول جسماً أعمى قابعاً في مكانه. بل إن إسرائيل تستطيع كشف مواقع هذه الترسانة عند أي خطأ اتصالي يرتكبه عنصر من “الحزب”، وهو ما يحصل اليوم.

كما أن السيطرة الإسرائيلية على وسائل الاتصال العسكرية من شأنها أن تعوق حركة المقاتلين وقدرتهم على تلقي التعليمات المناسبة لتنفيذ المهمات، وتجعلهم عاجزين أو خائفين من استخدام أي وسيلة اتصال، سواء كانت سماعة الهاتف الثابت أو جهاز الخلوي أو جهاز النداء أو اللاسلكي أو الكمبيوتر أو سوى ذلك. وهذا ما يشل حراك المقاتلين ويعطل قدراتهم على استخدام الأسلحة والآليات ويمنعهم من تنفيذ المهمات، خصوصاً إذا اندلعت حرب كبرى.

في الحروب العربية كلها، كانت تتفوق إسرائيل على العرب بالسلاح التقليدي، ولاسيما الاستخبارات والطيران. وفي العقود الأخيرة، رفع العديد من الجيوش العربية مستواه بالسلاح التقليدي، حتى صار ممكناً الحديث عن مقدار من التوازن مع إسرائيل.

وما فعله الإسرائيليون في 17 أيلول هو أنهم أخذوا الصراع بينهم وبين قوى الممانعة إلى مرحلة جديدة تماماً، وحققوا التفوق في المجال الجديد الذي سيسود في المستقبل، فيما ستحتاج هذه القوى إلى عقود كاملة من العمل الجاد والرصين، الهادف إلى بناء قدرات سيبرانية تحقق توازن الرعب مقابل إسرائيل.

للتذكير، بناء القدرات السيبرانية يستلزم في الأساس تجديداً في العقل، أي في ذهنية الإنسان، ودولةً حديثة قوية تمنح الأولوية للعلوم الحقيقية والحداثة، ولا تهرب منها الأدمغة بسبب الإحباط والخوف ولا يهاجر منها الشباب بسبب انسداد الأفق. وفي هذه الدولة تنشأ مراكز الأبحاث المفتوحة على العالم، وتخصص لها الموازنات بالمليارات.

إذاً، بناء القدرات السيبرانية سيكون مستحيلاً في دولة ضعيفة تنهبها القوى الحاكمة والمتحكمة، وتترعرع فيها بؤر الفلتان الأمني والاجتماعي، فيما تُسَدُّ الآفاق على المؤمنين بالعلم والفكر والحداثة. إنها لحظة للتفكير العميق: كيف يمكن أن ننتصر على إسرائيل بالفعل لا بالشعارات؟

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us