وداعاً “حزب” إيران
يبتعد يومًا بعد يوم حدث اغتيال نصرالله زمنيًّا. ويحلّ مكانه حدث اغتيال وطن بكامله، هو لبنان، الذي لم ينعم منذ زمن طويل بظروف طبيعية هي من حقوقه الطبيعية كسائر الأوطان. وما يهمّ الآن، هو أنّ “الحزب” الذي فقد رأسه البارز، انتقل إلى طور أفصح عنه خامنئي في خطبته الأخيرة، ألا وهو مواصلة القتال.
كتب أحمد عياش لـ”هنا لبنان”:
مرّ 42 عامًا على الحرب التي شنّتها إسرائيل من أجل إنهاء الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان. وانتهت تلك الحرب التي دارت في صيف عام 1982 بتحقيق إسرائيل لهدفها. لكنها خلقت في الوقت نفسه الظروف لوجود مسلّح آخر، وهو “حزب الله”. وها هي إسرائيل اليوم تشنّ حربًا أخرى لإنهاء “الحزب”. فهل سيعيد التاريخ نفسه أم لا؟
لا يستبق السؤال الأحداث الجارية، لكنه يلتقط جانبًا منها. ففي أتون هذا البركان المتفجّر منذ أكثر من شهرين تقريبًا، تظهر حقيقة ساطعة تتعلّق بهوية “الحزب”، ألا وهي طابعه الإيراني منذ أن أبصر النور بعد حرب عام 1982. ويمكن من خلال العودة إلى جبل الوثائق التأكيد على وجود هذا الطابع منذ أكثر من أربعة عقود. لكن الأحداث المتلاحقة التي بلغت ذروتها باغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، جاءت لتميط اللثام عن هوية “الحزب” الإيرانية. ومن قبيل التشبيه، نحن نستخدم عادةً عبارة “لبناني منذ أكثر من 10 سنوات” للتأكيد على هوية المواطن. ويمكننا أيضًا أن نستخدم عبارة “إيراني منذ أكثر من 40 عامًا” للتأكيد على هوية “حزب الله”.
نتوقّف عند ما قاله المرشد، وباللغة العربية، في الرابع من الجاري خلال مراسم تأبين نصرالله وصلاة الجمعة التي أُقيمت في العاصمة طهران. وجاء في خطبة خامنئي: “لقد غادرَنا السيد حسن نصرالله بجسده، لكن شخصيّتَه الحقيقيّة؛ روحَه، ونهجَه، وصوتَه الصادح، ستبقى حاضرةً فينا أبدًا. لقد كان الراية الرفيعة للمقاومة في وجه الشياطين الجائرين والناهبين، وكان اللسان البليغ للمظلومين والمدافع الشجاع عنهم، كما كان للمناضلين على طريق الحق سندًا ومشجّعًا. لقد تخطّى نطاق شعبيّته وتأثيره حدود لبنان وإيران والبلدان العربية، وستعزّز شهادته الآن مدى هذا التأثير”.
وأضاف خامنئي: “إنّ أهمّ رسائله (نصرالله) قولًا وعملًا، في حياته الدنيوية، لكم يا شعب لبنان الوفيّ، كانت ألّا يساوركم يأسٌ واضطرابٌ بغياب شخصياتٍ بارزةٍ مثل الإمام موسى الصدر والسيّد عباس الموسوي، وألّا يصيبكم ترددٌ في مسيرتكم. ضاعفوا مساعيكم وقدراتكم، وعززوا تلاحمكم، وقاوموا العدو المعتدي وأفشلوه بترسيخ إيمانكم وتوكّلكم”.
وخلص إلى القول: “أعزّائي، يا شعب لبنان الوفي، يا شباب حزب الله وحركة أمل المفعَم بالحماسة! يا أبنائي، هذا أيضًا طلب سيدنا الشهيد اليوم من شعبه وجبهة المقاومة والأمة الإسلامية جمعاء”.
أما في لبنان، حيث عاش ورحل نصرالله، فلم تُقم أية مراسم تأبين مماثلة لما أُقيم في طهران قبل 10 أيام. ويعود السبب إلى أنه لم يعد هناك من مكان في لبنان خارج الاستهداف الإسرائيلي. فمتى سنشهد ظروفًا تعيد الاعتبار إلى هذه الطقوس التي ترافق الموت؟
يبتعد يومًا بعد يوم حدث اغتيال نصرالله زمنيًّا. ويحلّ مكانه حدث اغتيال وطن بكامله، هو لبنان، الذي لم ينعم منذ زمن طويل بظروف طبيعية هي من حقوقه الطبيعية كسائر الأوطان. وما يهمّ الآن، هو أن “حزب الله” الذي فقد رأسه البارز، أي نصرالله، انتقل إلى طور أفصح عنه خامنئي في خطبته الأخيرة، ألا وهو مواصلة القتال. وتكمن المفارقة في هذا القتال، الذي يدور ضد إسرائيل، أنه لا ينطلق من أجل تحرير لبنان من الاحتلال، وإنما ينطلق، كما قرّر نصرالله في 8 تشرين الأول الماضي، من أجل “مساندة” حركة “حماس” في حربها التي شنّتها في هذا الشهر من العام الماضي.
تحت عنوان “فرنسا تسارع لإخماد نيران لبنان.. لماذا يقلقها التصعيد؟” أورد موقع “العين الإخبارية” الإماراتي تحليلًا جاء فيه: “تصريحات داعمة لوحدة لبنان ودعوة إلى مؤتمر دولي، ملامح دبلوماسية فرنسية نشطت مؤخرًا على الجبهة اللبنانية، تأمل من خلالها باريس، أن تؤدي إلى إسكات صوت المدافع، وعودة الهدوء إلى البلد العربي. وآخر تلك التحركات، دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السبت الماضي “حزب الله” إلى “وقف قصف إسرائيل، والتوصّل فورًا إلى وقف لإطلاق النار في لبنان”.
ومن أسباب التحركات الفرنسية، يقول الدكتور ألبير فرحات؛ الخبير في قضايا الأمن الدولي والمقيم في فرنسا، “إن الرئيس الفرنسي يخشى أكثر من أي وقت مضى على أمن جنوده الذين يعملون في إطار قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، والذي يزيد عددهم عن 700 جندي فرنسي، لا سيما بعد إطلاق دبابة ميركافا تابعة للجيش الإسرائيلي النار الخميس الفائت باتجاه برج مراقبة في مقرّ القوة الأممية بالناقورة”.
بحسب فرحات، فإنه “لن تكون هناك أي استجابة من “حزب الله” لوقف النار؛ لأن الجناح العسكري للحزب لا يريد الآن العودة للمفاوضات في الوقت الراهن، فيما تطغى حاليًا روح الانتقام للأمين العام السيد حسن نصرالله وللقيادات الأمنية والعسكرية التي جرى اغتيالها”. وأشار إلى أن الأمر الآن بيد الجناح العسكري لـ”حزب الله”، الذي “قطع كل قنوات الاتصال مع القيادة السياسية في الوقت الراهن، بما في ذلك المجلس السياسي للحزب”.
هل سيترك زمام الأمر بيد ما تبقّى من “حزب الله” وتاليًا بيد إيران؟ أتى الجواب السبت الماضي من المؤتمر الوطني الذي استضافه حزب “القوات اللبنانية” في معراب. وفي هذا الجواب ما ينسجم مع شعار المؤتمر “دفاعًا عن لبنان 1559، 1680 و1701”. وأتى القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي عام 2004 في صدارة القرارات التي أعاد المؤتمر الاعتبار إليها، حيث وجّه رسالة من لبنان إلى العالم ومفادها أنّ هناك أمرًا لم يُنجز، وهو استكمال حلّ الميليشيات، والذي كاد أن يتحقق كاملًا بعد اتفاق الطائف عام 1989.
وروى الدكتور سمير جعجع، رئيس حزب “القوات اللبنانية”، خلال مداولات المؤتمر بعيدًا عن الإعلام، كيف تمّ بعد الطائف عام 1989 حلّ ميليشيا “القوات اللبنانية”، وكانت وقتذاك أكبر الميليشيات، وكذلك تم حلّ مليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي التي تلي نظيرتها القواتية حجمًا.
ويضيف أنه جرى استثناء ميليشيا “حزب الله” من الحلّ لأن الرئيس السوري حافظ الأسد وضع “الحزب” بخانة ما وصفه بـ”الخط الأحمر”.
وما أراد مؤتمر معراب التأكيد عليه بالأمس، هو أنّ القرار الذي تأخّر تنفيذه منذ اتفاق الطائف وأعيد التشديد عليه في القرار 1559 عام 2004، قد آن اليوم أوان تنفيذه. وتتعدّد المبررات التي تؤكد على نزع سلاح “حزب الله” اليوم، ولو بعد تأخير دام نحو 35 عامًا. وإذا كان الأسد الأب قد منع سابقًا نزع سلاح “الحزب”، فإن خامنئي هو من ورث موقف النظام السوري هذا منذ العام 2005 بعد رحيل قوات الأسد عن لبنان.
لذا، وبعد مضي 19 عامًا على هذه الوراثة، أتى زمن يحتم توجيه تحية الوداع لهذا الوريث. إنه وداع لـ”حزب الله” الإيراني، لكن في الوقت ذاته، هي تحية استقبال إذا ما قُيّض أن يصبح “الحزب” لبنانيًا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
فستق حلبي يوم “الانتصار الإلهي” | فخامة بري ودولة “الحزب” | تفاؤل بري وابتسامة لاريجاني |