وطن النزوح أنا هنا!
لا ينقصنا سوى نزوح واحد للهرب من تحت قبضة الزعماء والأحزاب، نزوح إلى بلد يشبهنا ولا يشبههم، بلد يحتضننا ويرفسهم، بلد يحترمنا ويسجنهم، بلد يتمسّك بنا ويتخلى عنهم
كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:
نزحت من رحم أمي في أوائل الثمانينات إلى هذا البلد، وقبل أن تتعلّم رجلاي المشي في هذا العالم، نزحت على الأكتاف الهاربة من الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982. وقبل أن أبلغ السادسة من العمر، نزحت مجدداً عن بيروت بسبب معارك القوى اللبنانية في المناطق الشرقية عام 1986، ثم عدت ونزحت لمرتين متتاليتين عام 1989 و1990 من حرب التحرير. وبعد أن سكتت البواريد الأهلية تماماً واستقرينا في العاصمة لمدة 6 سنوات، ما لبثت أن نزحت مجدداً في حرب عناقيد الغضب عام 1996، ومن بعدها جاءت مسيرة النزوح السابع والأخير في حرب تموز 2006… وها أنا بعد حياة من النزوح اللامتناهي، أنظر إلى ملايين اللبنانيين ينزحون عن قراهم ومدنهم في عام 2024، وأنتظر بدوري موعد نزوحي الجديد الذي يقترب مع أصوات القنابل والصواريخ، نزوحي الذي قد يحين قبل نضوج الطبخات السياسية أو ينفجر مع اشتداد الهمجية والوحشية الإسرائيلية، فيبعثر استقراري وحياتي وأحلامي إلى صف مدرسة أو خيمة منصوبة على طرف طريق نظنّه آمناً، وربما تثبت مسيّرة عكس ذلك أو يفضح صاروخ ذكي غبائي الكشفي.
وفيما أنتظر على المحطات التلفزيونية اقتراب الموعد، أشاهد تبعثر حياة قرابة مليون وخمسمئة ألف لبناني ولبنانية، كانوا قد سبقوني إلى نزوح جماعي مهيب أفرغ مناطق الجنوب والبقاع والضاحية اللبنانية من الحياة. وأتذكّر مع هذا كلّه قصص حياة ملايين اللبنانيين الذين أمضوا مثلي مشواراً من النزوح بتواريخ وجغرافيا مختلفة، كلّ على حسب طائفته ومنطقته، وعلى وقع معارك مع أعداء نجدهم على الطلب.
الشيعي ينزح اليوم، وقبله نزح الدرزي والسنّي والمسيحي في فترات مختلفة من تاريخ لبنان، وقد لا تكون هناك فئة لبنانية واحدة لم تواجه أعباء وويلات النزوح، سواء الداخلي والخارجي. وعلى رغم اختلافاتنا الكثيرة والتي نبرع في استذكارها واستحضارها، إلّا أننا نتشارك بنفس درجة الوجع ولوعة الفراق وصفة النزوح التي أثقلت كاهلنا على كثرة ما طاردتنا.
نحن لسنا مواطنين لبنانيين يبحثون عن بلد، بل الأصحّ أننا نازحون لبنانيون يبحثون بداية عن منزل أو شارع أو قرية أو مدينة يسكنونها دون أن يضطروا للنزوح عنها، بسبب الإسرائيلي اليوم أو السوري في الأمس، أو الفلسطيني قبل ذلك، أو الفرنسي أيام الانتداب أو الألمان أو العثمانيين أو الرومان أو الإغريق، وطالما يمكننا العودة في التاريخ طالما سنجد هويات وأسباباً لنزوحنا المتكرّر.
قصتنا مع النزوح طويلة وهي لا تحتاج سوى إلى نزوح واحد وأخير، نزوح يمكننا اكتشاف جوهره اليوم بين أيدي إبن طريق الجديدة وبنت طرابلس التي تحتضن أولاد الجنوب الهاربين من الموت الإسرائيلي، نزوح يمكننا تذوقه على طاولات أبناء المتن والكورة وزغرتا الممدودة على شرف أبناء البقاع والضاحية… نحن، مجتمعان، لا ينقصنا سوى نزوح واحد للهرب من تحت قبضة زعماء متوحشين وأحزاب غبية وقيادات تمصّ الدماء، نزوح إلى بلد يشبهنا ولا يشبههم، بلد يحتضننا ويرفسهم، بلد يحترمنا ويسجنهم، بلد يتمسّك بنا ويتخلى عنهم.
الله يرحم الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي الذي كتب بيت “وطن النجوم أنا هنا، حدّق أتذكر من أنا”، وهو الذي كان بدوره نازحاً هرب من وطنه لبنان إلى مصر ومن بعدها الولايات المتحدة الأميركية… وأمّا نحن، أولئك الذين ينزحون دون أن يهاجروا، أو يستقبلون نازحين دون أن يفرّقوا، نقول بدورنا “وطن النزوح نحن هنا، حدّق وستذكر جيداً من نحن”، نحن الذين سنجتاز هذا الاختبار الأليم وسنبلسم جراح بعضنا البعض، وسننزح للمرّة الأخيرة إلى وطن يشبهنا، تكون السلطة الشرعية الحكم بيننا والجيش اللبناني المدافع عنّا، وأمّا طوائفنا ليست أكثر من ألوان تزيّن مجتمعنا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
نعيماً يا قاسم! | صدفة تجمع إيلي صعب وعلي خامنئي | حزب الله… “سلّملي عليه”! |