سجون عناوين
تستحق الثورة السورية اليوم أن تكون نموذجاً في سلميتها، بين ثورات الربيع العربي، التي غرق بعضها في حروب أهلية، كحال ليبيا، والسودان، وفي تناحر دستوري كتونس، والجزائر. والواقع أنّ من الصعب تصديق أنّ دولاً أخرى ليس لديها سجون ظلامية ربما أسوأ مما فضحته الثورة في سوريا التي سجونها عناوين بذاتها، سمعة وواقعاً
كتب راشد فايد لـ”هنا لبنان”:
لم يرتبط نظام، في العالم، بمفهوم سجون التعذيب، ووجودها، قدرما ارتبط حكم آل الأسد، بعهدي الأب والإبن، وتنافساً في وعي جيلنا، على احتلال المرتبة الأولى في سفك دماء السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، الذين أنشئ لهم، في البنية الأمنية للنظام، ما عرف بفرع فلسطين، وعلى العكس مما تعرف به دول العالم المتقدم من صروح ثقافة وتاريخ وعلوم، عُرفت سوريا بمجاهل أقبيتها، وقبح مصائر المعتقلين فيها من معارضين، وحتى ممن يجروء على التفكير في معارضة آل الأسد عموماً، خصوصاً أنّ مرور الزمن لا يمكن أن يمسح من الذاكرة الأهلية السورية، وغير السورية، ما تسرب من وراء الأبواب المغلقة، من “اختراعات” أدوات وطرق تعذيب، واعتداءات على الأعراض، وفنون اغتصاب الكرامات والأجساد، مما لا يسمح للضحايا، وآلهم وأحبابهم، بالنسيان.
يخطئ من يعتقد أنّ جريمة أسر الشعب السوري بين براثن التعذيب والخوف هي صنعة الأب والإبن دون غيرهما، فمن السهل إنعاش ذاكرة من نسي أسماء ورفعت وجميل والأعمام والأخوال، والسيدة الأم، الذين ضاقت الأرض عليهم فوصلت فنونهم في القتل إلى تنفيذ تفجيرات في أوروبا وغيرها، ولعل قول والدة الأب، في بداية الثورة الشعبية عام 2011 خير مؤشر إلى الذهنية الأسدية الحاكمة، إذ نقل عنها في حينه: لقد تسلمنا (أي العائلة الحاكمة) سوريا وعديد سكانها 30 مليوناً، ولا بأس أن نعيدها اليوم إليهم(الثورة الشعبية) بالعدد نفسه.
في العاشر من حزيران عام 2000 توفي حافظ الاسد في دمشق عن عمر يناهز 69 عاما إثر أزمة صحية، قبل أسبوع من عقد المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث الذي كان يفترض أن ينتخب بشار عضواً في القيادة القطرية على نية أن يقوده ذلك ليكون نائباً لوالده الرئيس المريض.
شعر السوريون، وكثير من اللبنانيين، بلمحة تفاؤل بتغيير مقبل، سيتسرب بين عمري الأب والابن، خصوصا أن الأخير، كما أشيع يومها، درس طب الأسنان في بريطانيا، ما أتاح الترويج لفكرة “تحضُره” و”رهافته” و”انسانيته”، والرهان عليه لإخراج سوريا من التخلف الإنساني. ولا أبالغ في القول إني كنت في طريقي من طرابلس إلى بيروت، يوم 10 حزيران 2000 حين جاءني اتصال من صديق ينبئني، بطريقة الايحاء، بوفاة حافظ الأسد، فشعرت في تلك اللحظة أن كمية الاوكسجين في السيارة قد ارتفعت، وأنه صار للتفاؤل بالتغيير مكان، لكن لا شيء من ذلك تحقق طوال 24 عاما، ولم يقدم الرئيس المخلوع على إنجاز أي اصلاح يعدّل في المشهد الخائب، بل استند الى “تراث ” والده في القمع والقتل، ليعمق الفجوة بين ادارته البلاد، وحق أهلها في الحرية وتطبيق الدستور والقوانين.
تستحق الثورة السورية اليوم أن تكون نموذجا في سلميتها، بين ثورات الربيع العربي، التي غرق بعضها في حروب أهلية، كحال ليبيا، والسودان، وفي تناحر دستوري كتونس، والجزائر. والواقع أن من الصعب تصديق أن دولا أخرى ليس لديها سجون ظلامية ربما أسوأ مما فضحته الثورة في سوريا التي سجونها عناوين بذاتها، سمعة وواقعا.
مواضيع مماثلة للكاتب:
أعجوبة إلهية | انتهى | الجرموز |