الانتخابات الأكثر مصيريةً منذ بشير الجميل


خاص 9 كانون الثاني, 2025

اليوم يُفترض أن يصل الرئيس الذي سيحمل أخطر المسؤوليات الوطنية، وهي بالحجم الذي كانت عليه يوم انتخاب بشير الجميل. وقد طال انتظار الرئيس السيادي القادر، لكن المهم أن يصل إلى بعبدا ويحمل أعباء الجمهورية، وهي ثقيلة جداً، وتستلزم المزيج من الجرأة والحكمة والنظافة والتجرد

كتب طوني عيسى لـ”هنا لبنان”:

عندما شغر موقع الرئاسة في العام 2022، تصرَّف “الثنائي الشيعي” وكأنه ارتاح من العبء. فحتى الحليف ميشال عون كان “مُتعِباً” لهذا الفريق أحياناً. وبشغور الموقع، أصبحت الحكومة ورئيسها قيد التصرف بين يديه، وبات ممكناً تحريكهما بسهولة، بآليات محدودة للقرار. ولذلك، رمى “الثنائي” ورقة سليمان فرنجية حصراً على الطاولة ونام. فإذا نجحت الفكرة لا بأس. وإذا فشلت- كما كان مرجحاً- يكون الوضع أفضل، و”هَمٌّ بالناقص” في موقع الرئاسة.
في تلك الفترة، كان “حزب الله” في ذروة قوته، مدججاً بترسانة إيران وجسرها البري والجوي والبحري، ووراءه الأسد. وكان يتدلل على إدارة جو بايدن وينتظر أن تكافئه في الداخل اللبناني، بسبب تسهيله اتفاق الترسيم بحراً بتنازلات مثيرة. حتى إن آموس هوكشتاين “تأقلم” مع بيئة “الحزب”، إلى حدّ أنه تجرأ أمنياً في العام 2023، وتناول “المنقوشة” مع السفيرة في مطعم مكشوف في الروشة، قبل أن يُمضيا يوماً سياحياً في ربوع بعلبك.
لكن هذه المرحلة “الذهبية” انهاها قسرياً وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل على رأس حكومة اليمين واليمين المتطرف، ووقوع “حماس” في فخ الحرب في غزة وإصرار “الحزب” على دعمها بحرب استنزاف في الجنوب. فالخطأ الفادح الذي ارتكبته طهران في قراءتها للتحولات الإقليمية والدولية، تسبب في الإطاحة بكامل أذرعها الإقليمية (ما عدا اليمن الذي ينتظر استحقاقاً مماثلاً على الأرجح)، فيما إيران نفسها باتت مضطرة إلى التنازل، سواء بالمفاوضات أو بضربة عسكرية. وتبين أن نتنياهو ورفاقه كانوا ينتظرون مثل هذا الخطأ ليحظوا بفرصة تاريخية لتغيير الشرق الأوسط بكامله. ولم يكن في وسع بايدن في نهايات عهده إلا تغطية الخطة الإسرائيلية. وأما ترامب الذي سيدخل البيت الابيض رسمياً بعد أيام، فسيقيم شراكةً مع نتنياهو، بناء على المصالح التي سيؤمنها مشروع الشرق الأوسط الجديد للولايات المتحدة وإسرائيل في آن معاً.
هذا المشروع سيُحدث انقلابات في كل دول الإقليم، ولاسيما تلك المحاذية لإسرائيل، وفي مقدمها لبنان حيث تبدلت معادلات القوة تماماً بسبب الحرب، وحيث الدولة تعاني الاهتراء والموت السريري. ولذلك، سيكون الرئيس المنتظر للجمهورية هو الركيزة الأساسية لبناء الدولة من جديد، وللتغيير في المؤسسات التي كانت خاضعة لموازين القوة السابقة، على مدى عقود. وفي عبارة أخرى، إن مهمة الرئيس المقبل ستكون تأسيسية للدولة بكل ما في الكلمة من معنى. ومسؤولية التأسيس تستلزم مواصفات افتقر إليها غالبية رؤساء الجمهورية وأركان السلطة الذين شهدهم لبنان في العقود الأخيرة.
بجرأة وحكمة، سيكون مطلوباً من الرئيس الإنقاذي المنتظر في الدرجة الأولى أن يضع حداً لتذاكي منظومة الفساد والنهب التي تضع يدها على البلد ويطلق مسيرة الإصلاح فعلاً لا بالشعارات، وأن يعيد الاعتبار إلى الدستور والقضاء والقوانين، وأن يقود السيارة مسار لإعادة القرار السيادي إلى الدولة حصراً. أي أن يعمل صراحة لتنفيذ القرارات 1701 و 1559 و1680 واتفاق الطائف، وأن يفتتح ورشة لترسيم الحدود البرية والبحرية مع سوريا، ولتصحيح الاتفاقات السابقة معها أو إلغائها، وأن يقطع تدخلات أي كان في الخارج بالشأن الداخلي، وأن يعيد العلاقات مع العرب إلى طبيعتها وأن يحدد معهم، بوضوح وجرأة وطنية، الشروط المطلوب توفيرها لإرساء السلام في الشرق الأوسط. فما يتوافق عليه العرب يتبناه لبنان حتماً، لكنه لا يفتح الحروب منفرداً، مراعاة لمصالح أي كان، فيدفع الثمن غالياً كما حصل أخيراً.
خارج هذا البرنامج لا معنى لانتخاب رئيس للجمهورية. ففي هذه المرحلة، تتقرر مصائر العديد من الدول والشعوب والجماعات في الشرق الأوسط، بدءاً بالشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وصولاً إلى لبنان وسوريا اللذين لا أحد يضمن خروج إسرائيل من أراضيهما المحتلة، وانتهاء بالأردن وربما مصر في مراحل لاحقة. فإذا تعاطى لبنان الرسمي مع هذه الاستحقاقات بالجهل والتجاهل، كما يفعل حتى اليوم، فإن الدولة والكيان في لبنان سيكونان في مهب الريح. وللتذكير، عندما رفع بشير الجميل شعار الـ10452 كيلومتراً مربعاً، كانت المخاطر على البلد موازية لتلك القائمة اليوم. وقد أدرك “الرئيس القوي” حينذاك أهمية المناداة بلبنان كاملاً، وبلا اقتطاع، من جهة إسرائيل في الجنوب ومن جهة سوريا في الشرق والشمال، ومن جهة دويلات الداخل أياً كانت.
اليوم يُفترض أن يصل الرئيس الذي سيحمل أخطر المسؤوليات الوطنية، وهي بالحجم الذي كانت عليه يوم انتخاب بشير الجميل. وقد طال انتظار الرئيس السيادي القادر، لكن المهم أن يصل إلى بعبدا ويحمل أعباء الجمهورية، وهي ثقيلة جداً، وتستلزم المزيج من الجرأة والحكمة والنظافة والتجرد. وهذه المواصفات نادرة جداً في نادي السياسة عندنا.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع مماثلة للكاتب:

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us