قمة “الخرطوم 2”: لا كبرى للترانسفير

لأوّل مرة منذ سنوات، تُبَلْوِرُ قمّة القاهرة تحالفًا عربيًا قادرًا على الوقوف ندًّا لكل من إسرائيل، تركيا، وإيران. فمن جهة، تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذِها عبر دعم الفصائل الإسلامية، فيما تعمل إسرائيل على فرض وقائع سياسية وعسكرية جديدة، أما إيران فترى في القضية الفلسطينية ورقة للمساومة على ملفاتها الإقليمية. وسط هذه التجاذبات، تُعيد قمّة القاهرة رسم المشهد عبر موقف عربي موحد، قد يشكّل بداية لمرحلة جديدة من الاستقلالية السياسية في مواجهة المشاريع الإقليمية والدولية.
كتب أسعد بشارة لـ”هنا لبنان”:
عندما انعقدت قمة الخرطوم في أغسطس/آب 1967 عقب نكسة يونيو/حزيران، أُطلق عليها قمّة “اللاءات الثلاث”: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض مع إسرائيل. اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يتكرّر المشهد مع قمّة القاهرة الأخيرة التي تستبق مشاريع الترانسفير من غزّة، وترسم معالم موقف عربي جديد يرفض تهجير الفلسطينيين ويرفض تصفية القضية عبر الحلول الأميركية والإسرائيلية.
مع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزّة وتصاعد الحديث عن خطط تهجير سكان القطاع إلى سيناء أو دول أخرى، جاءت قمّة القاهرة بمشاركة عربية واسعة لتوجيه رسالة واضحة: لا لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم. على خلاف المؤتمرات السابقة التي اكتفت بالإدانات أو البيانات العامة، حملت القمة خطوات عملية بدأت بطرح مشاريع إعادة إعمار غزّة بتمويل عربي، مع إعادة ترتيب إدارة القطاع بعيدًا عن حماس، وهو ما يعزّز وجود السلطة الفلسطينية هناك ويمنع الذريعة الإسرائيلية لاستمرار الحرب أو التهجير.
هذه التحرّكات تعني أن القاهرة، بدعمٍ عربي، تسعى لفرض أمر واقع جديد يحافظ على غزّة ضمن الإطار الفلسطيني، بدلًا من تركها فريسة للمخططات الإسرائيلية التي تهدف إلى تفريغها وإقامة مستوطنات مكانها، فيما وُعد النّاجون من التهجير بمشاريع اقتصادية على شواطئ سيناء فيما يشبه “ريفييرا غزّة”، وهو السيناريو الذي تبدّد مع موقف القاهرة الحاسم.
على مدار سنوات، كانت إسرائيل والولايات المتحدة تراهنان على تفكيك القضية الفلسطينية عبْر مسارات متعدّدة، بدءًا من “صفقة القرن” التي أطلقها الرّئيس دونالد ترامب، وصولًا إلى محاولات فرض واقع جديد عبر التطبيع واتفاقيات أمنية إقليمية. إلّا أن الحرب الأخيرة على غزّة كشفت حدود هذه الاستراتيجيّات، وأظهرت أن الشارع العربي، على الرَّغم من كل المتغيّرات، لا يزال يرفض التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية.
قمّة القاهرة جاءت لتؤكد فشل هذا المخطط، إذ لم تنجح الضغوط في دفع مصر أو الأردن إلى القبول بأيّ حلول تهدّد بقاء الفلسطينيين في وطنهم. وبدلًا من ذلك، برز موقف عربي أكثر استقلالية يرفض الهيمنة الإسرائيلية ويؤسِّس لتحالفات جديدة.
لأوّل مرة منذ سنوات، تُبَلْوِرُ قمّة القاهرة تحالفًا عربيًا قادرًا على الوقوف ندًّا لكل من إسرائيل، تركيا، وإيران. فمن جهة، تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذِها عبر دعم الفصائل الإسلامية، فيما تعمل إسرائيل على فرض وقائع سياسية وعسكرية جديدة، أما إيران فترى في القضية الفلسطينية ورقة للمساومة على ملفاتها الإقليمية. وسط هذه التجاذبات، تُعيد قمّة القاهرة رسم المشهد عبر موقف عربي موحد، قد يشكّل بداية لمرحلة جديدة من الاستقلالية السياسية في مواجهة المشاريع الإقليمية والدولية.
باختصار، قمّة القاهرة تمثّل “اللاءات الثلاث” الجديدة: لا للترانسفير، لا لتصفية القضية، ولا للهيْمنة الإقليمية.
الأجمل لبنانيًّا أنّ الوطن الخارج من سجنه، يشارك عبْر رئيسه برأس مرفوع وقرار محرّر، في القمّة التاريخية.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() صفعة على وجه إيران في قصر بعبدا | ![]() “بروفة” طريق المطار الفاشلة: “الحزب” مرتبك ولن يعوّض ارتباكه تشييع نصر الله وتقديس المناسبة | ![]() البيان الوزاري: ممنوع الالتباس |