تسليح الغموض

كتب Charles Chartouni لـ”This Is Beirut”:
حالةٌ من عدم اليقين تسيطر على الساحة السياسية الدولية حيث يضطرّ الفاعلون للمناورة في ظلّ تعقيدات نظامٍ عالمي آخذ في التفكّك. عدم الاستقرار المزمن هذا يعزّز على ما يبدو سياسة الغموض وتسليحها المتأصّل لصالح أجندات معيّنة. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، يشقّ من خلال تلميحاته الملتوية وازدواجيته المتعمّدة، طريقه وسط أزمات دولية متشابكة. أمّا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يتموْضع بثبات خلف نموذج الحرب الشاملة، فيُصدر إشارات متناقضة حول إبرام اتفاق سلام من جهة، واستئناف الخطاب العدائي للحرب الباردة من جهة أخرى.
وقد أفضت المعضلات الجيوسياسية التي تواجهها أوكرانيا إلى حربيْن متتاليتيْن تشكّكان في بقائها وقدرتها على تحقيق الاستقرار. وفي المقابل، ألقى نجاح إسرائيل في استراتيجيتها الهجومية المضادّة بظلال الشكّ على مستقبل المفاوضات. أمّا الفلسطينيّون، فلم يتمكنوا من ترسيخ استقلالهم السياسي أو الدخول في مفاوضات مع الإسرائيليين على أساس التكافؤ الأخلاقي. كما أنّ الهزيمة العسكرية لحزب الله لم تدفع لمراجعة نقدية لسرديّته السياسية أو تبعاتها الجيوستراتيجية. وهكذا، وجد لبنان نفسه من جديد رهينة الأزمات المعقّدة والعجز عن تحديد خياراته السياسية المستقبلية. أمّا سوريا، فتكشف الأزمات السياسية والأمنية التي تعصف بها حاليًّا عن عجزٍ في التعامل مع التساؤلات القومية المتراكِمة من خلال المراوغة والإنكار والعنف الطائفي.
ولم تدْفع أزمة الشرعية المتجذّرة وتفكّك “الجبهات العسكرية المتكاملة” وفضح أسطورة الثورة الإسلاميّة، النظام الإيراني لإعادة النظر في سياساته الداخلية وخياراته الاستراتيجية. وتُبرز هذه الأمثلة ملامح نظام عالمي مضطرب يفتقر إلى الاستقرار ويميل بعيدًا عن آليات حلّ النزاعات ديموقراطيًّا أو اعتماد الحوْكمة القائمة على القوانين.
يجب فهم سياسة ترامب ضمن إطار يتجاوز الحدود بين المجاليْن السياسييْن الداخلي والدولي. فنهجه السياسي التصادمي يتعارض مع إيقاع الجمهورية القائمة على الإجراءات والمؤسَّسات. ولا بد من إعادة تأهيل التعدّدية الحزبية وضمان الحياد الديبلوماسي لرئاسة نشِطة ذات أجندة حزبية واضحة، عند وضع القرارات العامّة قيد التنفيذ. كما لا يبدو أنّ التنافر الإدراكي يتكيّف مع الآليّات الديموقراطية الفاعلة. فالغموض يسود الموقف من الأزمة الأوكرانية، ويجب عليه تبديد هذا الالتباس الشخصي والعملياتي لتحقيق حلٍ مستدام لهذا الصراع. كما أنّ ابتعاده عن روسيا واتخاذ موقف محايد أمران ضروريان لإنجاح عملية السلام. فالتداخل بين المصالح الأمنية العابرة للأطلسي وعلاقاته الغامضة مع بوتين يحمل في طيّاته تداعيات خطيرة بلا أدنى شك.
أمّا الرئيس الروسي، فغيْر مكترثٍ بشكل واضح بحلّ النزاعات عن طريق التفاوض، إذ يعتمد على سياسة القوة العارية. فإضعاف قدرات أوكرانيا والخضوع لإملاءات الحكم الاستبدادي الروسي يشكلان تهديدًا خطيرًا للأمن الإقليمي والدولي، ويدفعان أوروبا والتحالف العابر للأطلسي نحو مسار صراعٍ كبير. إنّ الحرب في أوكرانيا تتجاوز حدودَها المباشرة، إذ تهدفُ إلى زعزعة استقرار أوروبا والتشكيك في أُسُسِهَا الفلسفية والاستراتيجية. ولا يمكن فصل الديبلوماسية القائمة على الصفقات قصيرة الأمد عن الاعتبارات السياسية والمبدئية التي يجب أن تؤطِّرها بالكامل. فالمصلحة السياسية لا يمكنُ أن تَحلّ محل الالتزامات المبدئية، كما أنّ أي مفاوضات مستقبلية يجب أن تضمن حقوق أوكرانيا الوطنية والحدود موضوع التفاوض المحتمل مع روسيا. لكنّ أي قيود تُفرض على سيادة أوكرانيا الوطنية قد لا تصمد أمام اختبارات الحروب المستقبلية.
لقد فرض الهجوم الإسرائيلي المضادّ واقعًا استراتيجيًّا وسياسيًّا جديدًا لا رجعة فيه أعاد تشكيل المشهد الإقليمي. ولأوّل مرة، تلوح فرصة لحلّ النزاعات في مختلف أنحاء الشرق الأدنى وتداعياتها الإقليمية من باب المفاوضات. غيْر أنّ تراجعَ نفوذ إيران في معادلة القوة الإقليمية يبقى مرهونًا بتأسيس تسويات جيوسياسية قابلة للحياة، وانحسار الإسلام الراديكالي بشقّيْه الشيعي والسني، وإصلاح النّظم السياسية في لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية والاتحاد العراقي نحو الديموقراطية والفيدرالية.
وبغياب هذه التحوّلات، قد تهيّئ النزعة التوسّعية لكلّ من حماس وحزب الله وتجدّد العداء السني – الشيعي، المسرح لفوضى أوسع وعودة التنافس الإمبريالي إلى المنطقة. كما أنّ الانقسام الفلسطيني الداخلي واعتماده على الدعم الخارجي، واندلاع حرب أهلية متصاعدة في سوريا وتداعياتها المدمّرة على التوافق الداخلي والتوتّرات في لبنان، وإعادة الاستثمار في سياسات الهيْمنة والقوّة، كلّها عوامل تهدّد مستقبل السلام المدني في المنطقة. وفي المقابل، قد تحمل الديناميكيات السياسية الجديدة فأل خيرٍ إذا نجحت في تحفيز مشاريع إصلاحية تعتمد على تحوّلات جذرية وثقافات سياسية بديلة، تضع حدًّا لإرث الحداثة الفاشلة وما أفرزته من عواقب كارثية.
مواضيع ذات صلة :
![]() السعودية وأوكرانيا تطلقان مجلس أعمال لتعزيز الشراكة | ![]() ترامب: نريد أن ننهي الحرب في أوكرانيا بأسرع وقت | ![]() مقترح أميركي بشأن أوكرانيا: هدنة لمدّة 30 يوماً |