“ولادكن بلا ترباية”!

النظام التعليمي في لبنان لديه حساسية مفرطة على التطوير والتحسين، حساسية تفرضها القوى السياسية حتّى يتعلّم التلميذ، ولكن فقط الأشياء التي لا تضرّ مصالحهم وسرديّاتهم السياسية والطائفية. فكتاب التاريخ مثلًا يتوقّف عند اغتيال الأرشيدوق فرديناند الأول، وكلّ عمليات الاغتيال والتدمير التي ارتكبها هؤلاء المربوطون بكرافات على معلف السياسة لا نعلّمها لأولادنا حتى لا يفهموا ماذا حصل.
كتب جوزف طوق لـ”هنا لبنان”:
بالطبع أنت لا تتكلّم عن أولادنا بل عن أولاد الآخرين، والآخرون سيقولون أيضًا أنت لا تقصد أولادنا بل أولاد غيرنا… وفي النّهاية الجميع سيقول: بالتأكيد ليس أولادنا، لأنهم يتعلّمون في أفضل المدارس ويحصلون على أعلى العلامات… وهنا بالتحديد تأتي قلّة التربية التي نُغرق أولادنا فيها بكامل قوانا العقلية والجسديّة، ونصطحبهم في كل صباح إلى باب الأوتوكار تحت المنزل حتى يتوجّهوا إلى مدارس تعلّم بِلا أن تربّي، وإلى أحضان أساتذة ومعلّمات يردّدون على مسامع صغارنا ما تُمليه عليهم إدارات مدارسهم ومن خلفهم الإكليروس والمشايخ، ومن خلفهم وزير التربية والتعليم الذي تضعه في منصبه إحدى الميليشيات الحاكمة كتنفيعة على ضهر البيْعة بوزارة دسمة، وحتّى “ما يزعل” البيك أو طال عمره القائد المفدّى بأجساد الكبار وعقول الصغار.
هي بلا شكّ صعبة للغاية أن يقول أحد عن أولادنا إنّهم “بلا ترباية”، لكن في الواقع هذه حال صغارنا وصغيراتنا منذ الصفوف الأولى إلى ما بعد تخرّجهم من الجامعة. يتعلّمون ولا يتربّون، يجمعون العلامات العالية ولا ينجحون، يتفوّقون في الصفوف ويتفرْكشون في الحياة. وهذا كلّه لسببٍ واحدٍ لا غير، وهو النّظام التعليمي في لبنان بكامل مراحله، نظام يمكن إعرابه بأنّه: “فعل ماضٍ ناقص، مبني على المصلحة الظاهرة على آخره، وعلامة كسره أجندات الزعماء والميليشيات”.
يا مسيو ويا مدام، ماذا تنفعكم فرحتكم بأولادكم الذين يتعلّمون في المدارس أصول الرياضيّات والجمْع والطرْح والحساب، وهم لا يتربّون على محاسبة المسؤول إذا كان مقصّرًا أو الوزير إذا كان فاسدًا أو النائب إذا كان متقاعِسًا؟ ماذا ينفعكم انبهاركم بأولادكم الذي يُتقنون إعراب الجملة الفعلية والجملة الاسمية، وهم لا يتربّون على مبدأ الانتفاضة عندما يصبحون “مفعولًا بهم” في الحياة كما هي حال آبائهم وأمهاتهم؟ بالله عليكم، ما هذا السرور الفائض بأولادكم الذين يتعلّمون اللغات من فرنسية وعربية وإنكليزية، طالما أنّهم لا يتربّون على تدمير النظام الذي لا يخاطبهم سوى بلغة التهديد والمحسوبيّات والطائفية والتبعيّة العمياء؟
أولادنا يتعلّمون ولكنهم لا يتربّون، يحفظون ويكتبون ويمتحنون وينجحون ويتفوّقون، ولا يجدون شيئًا من التربية طوال مشوارهم التعليمي، يسيرون بالعرق والسهر والكدّ والدرس على طريق النجاح، حتّى يصطدموا في نهاية المطاف بفشلٍ يلحق فشلًا على يد أحزاب وميليشيات وزعامات لا تنظر إليهم سوى بعيْن الاستحقار والازدراء… فيتركون شهاداتهم معلّقة على الحيطان حتّى يقفوا بالصفّ على أبواب الواسطة والتزلّم والتبعيّة، وأين؟ على أبواب أولئك الذين كانوا منذ البداية الأوْصياء على نظام تعليمهم وسياسات مدارسهم ومناهج اساتذتهم.
النظام التعليمي في لبنان لديه حساسية مفرطة على التطوير والتحسين، حساسية تفرضها القوى السياسية حتّى يتعلّم التلميذ، ولكن فقط الأشياء التي لا تضرّ مصالحهم وسرديّاتهم السياسية والطائفية. فكتاب التاريخ مثلًا يتوقّف عند اغتيال الأرشيدوق فرديناند الأول، وكلّ عمليات الاغتيال والتدمير التي ارتكبها هؤلاء المربوطون بكرافات على معلف السياسة لا نعلّمها لأولادنا حتى لا يفهموا ماذا حصل. وكتاب الجغرافيا، أحدث صورة فيه كانت لسدّ القرعون عندما افتتحوه عام 1959، أمّا كلّ السدود اللبنانية الفاشلة التي بناها أمراء الحرب والفساد فلا نذكرها حتى لا يعرفوا حقيقة ماذا يحصل اليوم. وكتاب التربية، فحدّث ولا حرج عن ويلات قلّة التربية الممتدّة من الجلدة إلى الجلدة بدروسٍ لا تمتّ إلى الواقع بشيء.
وأولادنا، “يلي بلا ترباية”، ولسوء حظّنا، هم مشروع من اثنين، إمّا يتعلّمون في لبنان ويغرقون في النظام، فتموت أحلامهم وتنتحر آمالهم وتنتكس تطلّعاتهم، ولا يكونوا سوى جنودٍ في صفوف التطبيل والتزمير وترداد شعارات بالروح بالدم… أو يهاجرون ويتعلّمون وينجحون ويرسلون الأموال إلى أهاليهم وعائلاتهم، فيموّلون من حيث لا يدرون هذا النّظام الذي نجح في تعليمهم من دون أن يربّيهم، حتى يتمتّع بسرقتهم وهم بعيدون عنه.
ونحن نحاول تربية أولادنا في المنزل، تأتي أقساط المدرسة حتى تذكّرنا بحجم مسؤولياتنا، فنجد أنفسنا مُرغمين على التقصير في التربية حتى تستفرد المدرسة مرّة أخرى في عدم تربية أولادنا… وها نحن عالقون مع أولادنا في حلقة مفرغة مصمَّمة على مقاسنا، ننتظر من حكومة إلى حكومة اسم وزير التربية الجديد الذي سيتمّ تسميته حتّى لا يزعل هذا الزعيم أو تلك الميليشيا… وحتّى تبقى تربية أولادنا في لبنان بيد هؤلاء الذين يمتهنون السرقة والنصب والقتل والدمار.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() “بغل” الدراما اللبنانية! | ![]() عاصفة 1982 | ![]() ع السكّين يا وزير! |