ورحل البابا فرنسيس

وداعًا أيها الراعي الذي مشى بين شعبه ولم يتعالَ عليهم، وداعًا أيها الأب الذي فتح ذراعيه للعالم أجمع، وداعًا أيها البابا الذي لم يفصل بين الإيمان والحياة، بل جمعهما في مسيرة واحدة عنوانها المحبة. نم بسلام، فالعالم اليوم أكثر احتياجًا لروحك، والسماء أكثر غنى بوصولك
كتب جو أندره رحال لـ”هنا لبنان”:
في صباحٍ مشبع بالحزن، وفي لحظةٍ تتوقف عندها الكلمات، طوى التاريخ صفحة أحد أكثر رجال الدين تأثيرًا في العصر الحديث. البابا فرنسيس، راعي الكنيسة الجامعة، رحل عن عالمنا، تاركًا وراءه إرثًا إنسانيًا وروحيًا قلّ نظيره.
منذ انتخابه في 13 آذار 2013، حمل خورخي ماريو برغوليو، أول بابا من أميركا اللاتينية، اسم “فرنسيس” تيمنًا بالقديس فرنسيس الأسيزي، وأطلق مسارًا إصلاحيًا غير مسبوق في الكنيسة الكاثوليكية، منح الأولوية للفقراء، ودافع بلا هوادة عن قضايا البيئة، العدالة الاجتماعية، السلام، وحقوق الإنسان.
كان صوت الذين لا صوت لهم. تحدّث من قلب الفاتيكان إلى أحياء الصفيح، من المحافل الدبلوماسية إلى القوارب الغارقة في المتوسط. لم تكن قداسته محصورة خلف الجدران العالية، بل كان ينزل إلى الشوارع، يلمس الجراح، يقبّل الأطفال، ويعانق المسنين والمنبوذين.
امتاز البابا فرنسيس بتواضع نادر، فاختار الإقامة في بيت الضيافة “سانتا مارتا” بدلًا من القصر الرسولي، ورفض كل مظاهر الترف، مركزًا على الجوهر بدل الشكل. كانت عظاته بسيطة وعميقة، قادرة على ملامسة قلوب البسطاء والمفكرين على السواء.
في زمن الانقسامات، مدّ جسور الحوار مع المسلمين واليهود، ومع الطوائف المسيحية الأخرى، مؤكدًا أنّ الدين لا يجب أن يكون حاجزًا، بل جسراً للسلام. ووقف بجرأة في وجه التيارات الشعبوية، مدافعًا عن المهاجرين واللاجئين، ومُصرًّا على أنّ كرامة الإنسان فوق كل الحسابات.
لكن وراء الصورة الرسمية، كان البابا فرنسيس إنسانًا بكل ما للكلمة من معنى. كان قلبه متعبًا من ثقل العالم، يحمل وجع الآخرين كأنّه وجعه، ويصلي من أجل الذين يهاجمونه قبل الذين يمدحونه. عاش بإيمان عميق، ورحل بإيمان أعمق.
وبرجاء القيامة الذي آمن به وعاش من أجله، نستودعه بين يدي الله، على وعد الحياة الأبدية، كما جاء في قول السيد المسيح:
“أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ، مَنْ آمَنَ بِي وَإِنْ مَاتَ فَسَيَحْيَا.”
(يوحنا 11: 25)
برحيله، لا تخسر الكنيسة زعيمًا روحيًا فحسب، بل يخسر العالم رمزًا أخلاقيًا نادرًا. ومع ذلك، تبقى تعاليمه ووصاياه محفورة في ضمير الإنسانية. إرثه لا يُختصر في الوثائق البابوية، بل في التحولات التي أحدثها في القلوب والعقول.
وداعًا أيها الراعي الذي مشى بين شعبه ولم يتعالَ عليهم، وداعًا أيها الأب الذي فتح ذراعيه للعالم أجمع، وداعًا أيها البابا الذي لم يفصل بين الإيمان والحياة، بل جمعهما في مسيرة واحدة عنوانها المحبة.
نم بسلام، فالعالم اليوم أكثر احتياجًا لروحك، والسماء أكثر غنى بوصولك.
مواضيع مماثلة للكاتب:
![]() تفاهم واشنطن وطهران: هل يطوي صفحة الممانعة؟ | ![]() الأشخاص ذوو الإعاقة من التهميش إلى التمكين في البلديات | ![]() التوحّد: واقع مرير وحاجة ملحّة للتغيير |