وداعٌ خارج الطقوس: البابا فرنسيس يختتم خدمته بجنازة تُشبهه

عرب وعالم 22 نيسان, 2025

في ساحة القديس بطرس، حيث تعانقت الأرواح والصلوات على مرّ قرون، لا يبدو وداع البابا فرنسيس كمجرد لحظة حزن كنسية، بل فصلًا جديدًا يُكتب الآن في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فصل يُغلق على رجل قلب المعايير البابوية في حياته، وها هو يفعلها من جديد في مماته.

بين تقاليد الفاتيكان الصارمة وروح العصر المتطلعة نحو التغيير، بدا وكأن البابا فرنسيس أدار مشهد وداعه بنفسه، عبر قرارات جريئة وغير مسبوقة. جنازته لم تأتِ فقط كنهاية لحياة بابوية، بل كبداية لسؤال لاهوتي وسياسي: من سيحمل راية كنيسة تبحث عن هويتها وسط زلازل الإيمان، والانقسامات الداخلية، والضغوط العالمية؟

البابا الذي غيّر مشهد الرحيل

رحيله أمس، أحدث البابا فرنسيس زلزالًا رمزيًا في الفاتيكان. رجل لطالما فاجأ المؤمنين بآرائه غير التقليدية، لم يترك لحظة وفاته تسير على السكة الكنسية المعتادة. كتب فصله الأخير بيده: لا توابيت فخمة، لا بروتوكولات متشددة، ولا طقوس تخدش روحه المتواضعة.

التابوت الذي اختاره مصنوع من الزنك ومغطى بخشب بسيط، كاسرًا تقليد التوابيت الثلاثية (خشب السرو، الرصاص، والبلوط). التابوت نفسه يحمل رسالة متأخرة للعالم: البابا الذي حارب المظاهر حتى النهاية.

جثمانه عُرض دون نعش، في صورة أقرب إلى مشهد من مخيلة فنية، لكنها حقيقية حدّ الذهول. أراد فرنسيس أن يراه المؤمنون كما هو: جسدًا من تراب، لا أكثر.

تسعُ ليالٍ من التأمل: طقوس الـ”نوفندياليس”
كما تنص التقاليد، تبدأ بعد وفاة البابا فترة حداد تُعرف بـ”نوفندياليس”، أي تسعة أيام من الصلاة والتأمل والقداديس اليومية. هذه المرة، تأتي الأيام التسعة بنكهة فرنسيس الخاصة:

صلوات بلغات متعددة، تعبيرًا عن عولمة الكنيسة ووجع الفقد الجماعي.

مراسم غير مركزية تقام بالتوازي في بوينس آيرس، حيث عمّ الحزن الأحياء الفقيرة التي لطالما دعمها.

غياب بعض الطقوس الرسمية المعتادة، مثل وضع عصا البابا بجانب التابوت، في إشارة رمزية واضحة إلى روح التواضع التي طبع بها حياته.

الدفن… في مكان غير متوقع
الأنظار تتجه اليوم إلى موقع دفنه، إذ تشير الترتيبات إلى اختياره بازيليك سانتا ماريا ماجوري، بدلاً من كاتدرائية القديس بطرس. وإن تأكد هذا القرار، فسيكون البابا فرنسيس أول من يُدفن خارج “مغارة الفاتيكان” منذ ليون الثالث عشر عام 1903.

اختياره ليس عشوائيًا، فهو اعتاد زيارة هذه الكنيسة بعد كل رحلة بابوية، واصفًا إياها بـ”مأوى الروح في عالمٍ متغير”. دفنه هناك سيكون بمثابة عودة إلى الجذور، حيث الإنسان قبل المنصب، والإيمان قبل التاج.

من سيخلف البابا فرنسيس؟
بوفاته، تبدأ عملية اختيار البابا الجديد، أو ما يُعرف بـ”الكونكلاف”. 136 كاردينالًا دون سن الثمانين، من مختلف أنحاء العالم، يتوافدون إلى الفاتيكان لحسم القرار في اجتماع مغلق داخل كنيسة سيستين.

تُكتب أسماء المرشحين على أوراق اقتراع، تُجمع وتُحرق بعد كل جولة تصويت. الدخان الأسود يعني: لا جديد. والدخان الأبيض يعني ولادة خليفة جديد لفرنسيس.

لكن هذا الاختيار لن يكون معزولًا عن مشهد الجنازة. فالبابا القادم، أيًا كان، سيُقارن بسلفه منذ اللحظة الأولى. هل سيواصل نهجه المتسامح والمنفتح، أم يعود إلى تشدد سابق عهده بنديكتوس السادس عشر؟

إرث البابا في مرآة وفاته
فرنسيس، أول بابا من أميركا اللاتينية، أول يسوعي في هذا المنصب، وأول من اختار اسم القديس الفقير “فرنسيس الأسيزي”. خلال سنواته، خفف لهجة الكنيسة تجاه قضايا مثل المثلية الجنسية، وهاجم الرأسمالية المتوحشة، ولم يتردد في الاعتراف بأخطاء الكنيسة.
وفاته اليوم ليست حدثًا دينيًا فحسب، بل استفتاء رمزي على هذا النهج. بين من يذرف الدموع فقدًا، ومن يرى أنه دفع الكنيسة نحو مسار مقلق، يبقى إرثه حاضرًا، يُثير الجدل كما كان في حياته.

جنازة بمقاييس الإنسان
“أريد جنازة تليق بكرامة المسيحي، بسيطة ومتواضعة تعكس روح الإيمان وليس مظاهر السلطة”، بهذه الوصية ترك فرنسيس أثره الأخير. وبينما تدق الطبول الرسمية من بعيد، جاءت جنازته صامتة بما يكفي لتُحرك الضمائر.

هل تريد/ين الاشتراك في نشرتنا الاخبارية؟

Please wait...

شكرا على الاشتراك!

مواضيع ذات صلة :

انضم الى قناة “هنا لبنان” على يوتيوب الان، أضغط هنا

Contact Us