قانون السرّية المصرفيّة: إصلاح مزعوم وابتزاز تحت مسمًّى قانونيّ!

تساؤلات حول الأسباب التي دفعت السلطات اللبنانية وصندوق النقد إلى الإسراع في تعديل قانون السرّية المصرفيّة وقانون إعادة هيكلة المصارف، في حين لم يُظهر الطرفان الحماسة نفسها تجاه قوانين لا تقلّ أهميةً، مثل قانون استقلالية القضاء. ومن يُروّج لفكرة أنّ تعديل قانون السرية المصرفية سيكافح تجارة الكبتاغون، يتغاضى عن أنّ من يعمل في الاقتصاد غير الشرعي لا يضع أمواله أصلًا في المصارف.
كتبت سيلين يزبك لـ”هنا لبنان”:
في ظلّ الأزمات الاقتصادية المتوالية التي تعصف بلبنان، يظهر تعديل قانون السرّية المصرفيّة كأداةٍ جديدةٍ، ولكنّها في الواقع ليست أكثر من مسحةٍ تجميليةٍ تهدف لإخفاء الفشل الحكومي المُتراكِم. تحت ضغط الجهات المانحة، وخاصةً “صندوق النقد الدولي”، يُطرح هذا التعديل وكأنّه خطوة نحو الإصلاح، ولكن الحقيقة المُرّة تكمن في أن هذه التعديلات لن تؤدّي إلّا إلى المزيد من العبث بالاقتصاد اللبناني وتفاقم معاناة المواطن.
قد يبدو أن تعديل القانون هو محاربة للفساد وتبييض الأموال، ولكن في واقع الحال، هذا التعديل لن يحقّق أيّ تغيير جذري طالما أنّ المنظومة السياسية والاقتصادية مريضةً إلى حدّ أنّها لا تستطيع أن تفرز سوى قوانينَ هشّةٍ وعمليةٍ مشلولةٍ. مع غياب نظامٍ قضائيّ مستقلٍ وفشلِ المؤسّسات الرقابية، هل يمكننا فعلًا الوثوق بأنّ هذا التعديل سيحقّق العدالة؟ في واقع لبنان اليوم، يصعب أن نرى هذا التعديل إلّا كأداةٍ جديدةٍ لابتزاز رجال الأعمال والمستثمرين، لزيادة الضّغط عليهم في ظلّ نظامٍ يغلب عليه التواطؤ والفساد.
بناءً على ذلك، لا يبدو أنّ الحلَّ يكمنُ في تعديل قانون السرّية المصرفيّة الذي لا يشكّل حلًّا كافيًا أو جذريًّا، بل يأتي في إطار سياسة تجزئة الإصلاح، و”شيْطنة” القطاع المصرفي، بدلًا من مقاربةٍ شاملةٍ تُعيد الثقة إلى الاقتصاد اللبناني. بل الحلّ يكمن في ضرورة إحداث تغيير جذري في النظام القضائي والسياسي، وهو أمر يبدو بعيد المنال طالما أنّ الفساد مستشرٍ والمؤسّسات عاجزة عن القيام بدورها. فما هو الثمن الذي سيدفعه المواطن اللبناني في هذه اللعبة السياسية، وهل سيجني الفقراء أي نفعٍ من هذه “الإصلاحات”؟
في هذا السّياق، يُبدي الخبير الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل “ملاحظاتٍ جوهريةً على المشروع الجديد لتعديل قانون السرّية المصرفيّة، الذي يعتبره غير كافٍ لوحدِه لتحقيق الإصلاح المطلوب”، موضحًا أنّ “هذه المرة الثانية التي يُعدّل فيها قانون السرية المصرفية خلال ثلاث سنوات، بعد التعديل الجذري عام 2022 بناءً على اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي، وتكرار التعديلات يعكس غياب الاستقرار التشريعي، وهو عامل مقلق للمستثمرين الذين يراقبون عن كثب مدى ثبات القوانين في أي بلد قبل ضخّ استثماراتهم فيه”.
ويُشير إلى أنّ “الاستثمارات الأجنبية والشركات الكبرى وحتّى الأفراد المتردّدين في إيداع أموالهم في المصارف اللبنانية، يتأثّرون بشكلٍ مباشرٍ بغياب هذا الاستقرار، مما يزيد من حال الترقّب وعدم اليقين في السوق المحلية”.
ويشدّد غبريل على أنّ “رفع السرّية المصرفيّة عادةً ما يُطبّق للمستقبل وليس للماضي، ويُفترض أن يُسْتَخْدَمَ كوسيلةٍ للمساءلة في الإطار القانوني الصحيح”، مؤكدًا على ضرورة التمييز بين حسابات المصارف ككِيانات مؤسّسية، وبين حسابات المودعين الأفراد، إذ “يجب عدم الخلْط بين حسابات المصارف وحسابات المودعين. لا يجوز أن يتحوّل هذا القانون من هدفه المتعلّق بالوصول إلى حسابات المصارف، إلى وسيلةٍ للوصول إلى حسابات الأفراد والمودعين من دون أي مبرّر قانوني”.
ويحذّر غبريل من إمكانيّة تسريب المعلومات الخاصة، مستشهدًا بحوادث سابقة تسرّبت فيها معطيات حسّاسة إلى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ومشدّدًا على ضرورة حماية السرّية المهنيّة، وعدم السماح لأي جهة بالحصول على معلومات من دون مسوّغٍ قانوني واضح.
ويرى غبريل أنّ تركيز الجهود على تعديل قوانين متعلّقة بالمصارف فقط، يفتقد إلى الرؤية الشاملة المطلوبة، موضحًا أنّ “الإصلاح الحقيقي لا يتجزّأ. فإلى جانب القطاع المصرفي، هناك ملفات إصلاحية أخرى مترابطة: أمنية، ديبلوماسية، قضائية، مالية، اقتصادية، ونقدية”.
ولفت إلى أنّ الإصلاح في الشق الديبلوماسي، يبدأ بـ “ترميم العلاقات مع دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، من خلال إغلاق مصانع الكبتاغون ووقف تصدير المواد الممنوعة إلى هذه الدول، بالإضافة إلى وقف الحملات الإعلامية المُسيئة التي تصدر من بعض وسائل الإعلام اللبنانية، وتأمين سلامة طريق المطار”.
ويتساءل غبريل عن الأسباب التي دفعت السلطات اللبنانية وصندوق النقد إلى الإسراع في تعديل قانون السرّية المصرفيّة وقانون إعادة هيكلة المصارف، في حين لم يُظهر الطرفان الحماسة نفسها تجاه قوانين لا تقلّ أهميةً، مثل قانون استقلالية القضاء.
ويقول غبريل “من يُروّج لفكرة أنّ تعديل قانون السرية المصرفية سيكافح تجارة الكبتاغون، يتغاضى عن أنّ من يعمل في الاقتصاد غير الشرعي لا يضع أمواله أصلًا في المصارف. تلك المصارف تخضع أساسًا لمعايير الامتثال الدولي”.
ويضيف أنّ إدراج لبنان على اللائحة الرّمادية في تشرين الأول 2024 لم يكن بسبب النظام المصرفي، بل نتيجة التقصير القضائي، وضعف الرقابة، ووجود مؤسّسات مالية غير مرخّصة.