نعيم قاسم يحمّل الدولة المسؤولية: تناقض السلاح والسيادة

بينما كانت بيروت تلملم شظايا الغارة الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية، أطل نائب الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم أمس في خطاب يعيد رسم مشهد الالتباس اللبناني بين منطق الدولة ومنطق الدويلة. خطاب قاسم بدا وكأنه إبراء ذمة مسبق، محمّلاً الدولة اللبنانية مسؤولية “الضغط على الأميركيين والفرنسيين والأمم المتحدة”، في وقتٍ يتخذ فيه “حزب الله” قرارات الحرب والسلم بمعزل عن أي سلطة شرعية، ويدخل البلاد في مواجهات عسكرية لا تعود على لبنان ولا على غزة نفسها بأي مكسب استراتيجي فعلي.
اتفاق وقف إطلاق النار: تنازل مُقنّع؟
تكشف المعطيات أنّ “حزب الله” نفسه وقّع، عبر قنواته، على اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي، وهو اتفاق يسمح لإسرائيل، بموجب بنوده، بشنّ هجمات جديدة في حال إعادة بناء مخازن أو مراكز عسكرية تابعة للحزب. وبذلك، يكون الحزب قد وافق ضمنياً على صيغة تتيح لإسرائيل استمرار الضربات تحت ذريعة “منع إعادة التسلّح”، مما يشكل خرقًا واضحًا للمفاهيم السيادية وللقانون الدولي الذي يفرض التزام الطرفين بالتهدئة دون شروط استنسابية.
مصادر سياسية مطلعة نقلت لـ”نداء الوطن” أنّ الحزب يجد نفسه اليوم في “ورطة مثلثة الأبعاد”:
أولاً، عجز عن الرد خوفاً من التصعيد الكامل.
ثانياً، تواصل الضربات الإسرائيلية بضوء أخضر أميركي، مع تأكيد واشنطن عبر موفدين مثل مورغان أورتاغوس على “حق إسرائيل المشروع” بالاستهدافات.
ثالثاً، انكشاف التباعد مع الدولة اللبنانية، التي ترفض أن تتحمل نتائج مغامرات الحزب، ولا تزال متمسكة بسياسة “حصرية السلاح بيد الدولة” كما شدد الرئيس جوزاف عون لوفد مجلس الشيوخ الفرنسي.
بين تحميل الدولة المسؤولية والتهرب من الاستحقاقات
طالب الشيخ نعيم قاسم الدولة بتحركات دبلوماسية أكثر “حزماً”، منها استدعاء السفيرة الأميركية ورفع شكاوى في مجلس الأمن. إلا أنّ هذه المطالبات تكشف تناقضًا صارخًا: كيف يطلب الحزب من دولة مغيبة عن قرار الحرب والسلم أن تدافع عنه دولياً وهي تُقصى ميدانياً وسياسياً؟
مصادر “الجمهورية” لفتت إلى أنّ “حزب الله” يُدرك أنّ إسرائيل تحاول استدراجه إلى حرب شاملة، لكنه يحاول الآن الإبقاء على المواجهة ضمن سقف محدود، تاركاً المسار الدبلوماسي للدولة اللبنانية في الوقت الذي لا تزال فيه معادلة سلاحه الإقليمي قائمة ومرتبطة بالقرار الإيراني.
استحقاقات داخلية على صفيح ساخن
الغارة الإسرائيلية الثالثة على الضاحية الجنوبية بعد وقف إطلاق النار جاءت عشية انطلاق الانتخابات البلدية والاختيارية في جبل لبنان، وكأنها محاولة لتعطيل أي عودة محتملة للحياة السياسية الطبيعية طالما سلاح حزب الله لم يُسلّم بعد. وفي هذا السياق، علمت “نداء الوطن” أن رئيس الحكومة نواف سلام زار قصر بعبدا مؤخراً، والتقى الرئيس جوزاف عون للبحث في تداعيات القصف والتنسيق مع لجنة مراقبة وقف إطلاق النار. بالتوازي، يعود رئيس اللجنة الخماسية المكلفة بمتابعة الهدنة، الجنرال جاسبر جيفرز، إلى بيروت في الأيام المقبلة، في تطور لافت على خطّ الاتصالات الدولية التي يقودها عون مع الأميركيين والفرنسيين.
أزمة رؤية داخل الحزب
على مستوى “حزب الله” الداخلي، أكدت مصادر “نداء الوطن” أن الحزب يعيش تخبّطاً فكرياً واستراتيجياً بعد مقتل معظم قادة الصف الأول. ورغم الخطابات المتكررة عن “الصمود وعدم الانهيار”، إلا أن معظم الإطلالات السياسية لا ترقى إلى مستوى خطة سياسية أو عسكرية واضحة للمرحلة المقبلة. عوضًا عن ذلك، يتم ربط مستقبل السلاح بمسائل دينية عقائدية كظهور المهدي، بحسب تحليلات سياسية.
في هذا الإطار، يبدو أن الحزب بدأ، تحت الضغط، ببلورة بعض مرتكزات خطة جديدة، وإن كانت معالمها لا تزال غامضة وغير مكتملة، وسط واقع داخلي مأزوم وتحولات إقليمية ودولية تفرض عليه معادلات جديدة.
بين الدولة والدويلة
بمراجعة خطاب نعيم قاسم وما يجري على الأرض، يتضح أن “حزب الله” يريد من الدولة أن تدافع عنه، دون أن يسلمها مفتاح القرار الأمني والعسكري.
يريد حمايتها في مجلس الأمن، بينما يصادر قرارها السيادي على الأرض.
يريد ضغطها الدبلوماسي، فيما يحرمها من امتلاك القدرة العسكرية الحقيقية لفرض احترام القرارات الدولية.
هكذا يتكرس المشهد اللبناني: دولة مطلوب منها أن تلبس ثوب الحامي، فيما تبقى أذرع القوة الفعلية خارج سيطرتها. وهكذا يُترك لبنان رهينة صراع لا يملك زمام قراره، لا في الحرب ولا في السلم.