المفاوضات الأوكرانية الروسية: هدنة مشروطة وسجال دولي يعقد فرص السلام

أعلنت الرئاسة الروسية يوم أمس الإثنين عن أمر رئاسي صادر عن فلاديمير بوتين يقضي بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام، بين الثامن والعاشر من أيار بمناسبة الاحتفال بيوم النصر في روسيا. ومع هذه الهدنة القصيرة، وضعت موسكو شروطًا مسبقة للدخول في مفاوضات سلام مع أوكرانيا، أبرزها الاعتراف الدولي بضم شبه جزيرة القرم وأربع مناطق أوكرانية أخرى أصبحت خاضعة للسيطرة الروسية منذ اندلاع الحرب.
شروط روسية متشددة وتشكيك أوكراني
أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن أي مفاوضات جدّية لا يمكن أن تبدأ دون اعتراف أوكرانيا والمجتمع الدولي بضم موسكو لكل من القرم وسيفاستوبول، بالإضافة إلى جمهوريات دونيتسك ولوغانسك، ومنطقتي خيرسون وزابوريجيا، وهي أراضٍ تسيطر روسيا على أجزاء منها منذ بداية النزاع أو منذ توسيع عمليتها العسكرية عام 2022.
في تصريح لافت، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن هذه الشروط “أساسية” و”غير قابلة للنقاش”، مما يعكس تشدد موسكو في الملف التفاوضي، رغم تأكيدها المتكرر على استعدادها للجلوس إلى طاولة الحوار دون شروط مسبقة، كما أكد المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف.
في المقابل، رفضت أوكرانيا هذه الشروط، وأكدت على لسان وزير خارجيتها أندريه سيبيها أنها تدعم وقفًا دائمًا وشاملًا لإطلاق النار، لا هدنة مؤقتة “تستغلها روسيا لإعادة تجميع قواتها”. وأضاف سيبيها أن أي نقاش حول مستقبل الأراضي الأوكرانية “يجب أن يحترم سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها”، ودعا إلى هدنة لا تقل عن 30 يومًا كخطوة لبناء الثقة.
ترامب بين بوتين وزيلينسكي: إحباط وضغوط
على الساحة الدولية، شكّل دخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خط النزاع عنصرًا مؤثرًا جديدًا في المسار التفاوضي. ترامب، الذي عاد إلى البيت الأبيض في يناير، عبّر عن “إحباطه المتزايد” من الرئيسين بوتين وزيلينسكي على حدّ سواء، داعيًا الطرفين إلى “الجلوس فورًا إلى طاولة المفاوضات لإنهاء الحرب”.
المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولاين ليفيت، أكدت أنّ الإدارة الأميركية الجديدة تريد وقفًا دائمًا لإطلاق النار، لا مجرد هدنة مؤقتة. كما ألمحت إلى أن واشنطن تنظر إلى النزاع بعيون براغماتية، حيث قالت إن “ترامب يعتقد أن التفاهم ممكن، ولكن الطرفين لا يظهران نوايا واضحة للسلام”.
يأتي ذلك بعد تصريح مثير للجدل من ترامب أشار فيه إلى أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أبدى استعدادًا للتخلي عن القرم، ما أثار ضجة سياسية في كييف، دفعت زيلينسكي إلى نفي الأمر بشكل قاطع.
وفي تقييمه للوضع، حذر ترامب من أنّ استمرار الحرب قد يؤدي إلى فقدان أوكرانيا كامل أراضيها خلال ثلاث سنوات. مضيفًا أنّ روسيا لا تشكل عقبة أمام اتفاق السلام، بل إنها ـ حسب تعبيره ـ قدّمت تنازلات كبيرة، لكن العثرة الرئيسية تكمن في عدم تحقيق التفاهم مع القيادة الأوكرانية الحالية.
اتهامات أوروبية… ومصالح السلاح تطغى
على الجبهة الأوكرانية، فجّر النائب الأوكراني ألكسندر دوبينسكي قنبلة سياسية من العيار الثقيل باتهامه فرنسا وبريطانيا ودول البلطيق والتشيك بـ”عرقلة مفاوضات السلام” لصالح مصالح اقتصادية. ففي منشور له على “تلغرام”، أشار دوبينسكي إلى أن هذه الدول تستفيد ماليًا من إطالة أمد الحرب عبر صفقات الأسلحة التي تورد إلى أوكرانيا.
وبحسب دوبينسكي، فإنّ العواصم الأوروبية الكبرى لا تدعم أوكرانيا استراتيجيًا بقدر ما تسعى لتبييض الأموال وجني الأرباح، خاصة مع بلوغ استهلاك القوات الأوكرانية ما بين 12 إلى 14 ألف قذيفة يوميًا، ما يدر أرباحًا قد تتجاوز مليار يورو شهريًا.
هذه التصريحات تعكس تصدعًا داخل الخطاب السياسي الأوكراني نفسه، حيث يرى البعض أن الدعم الدولي قد لا يكون دائمًا نابعًا من نوايا إنسانية أو دفاعية بحتة، بل يتداخل مع مصالح مالية واستراتيجية معقدة.
موسكو تعرض التفاوض… ولكن بشروط
من جهته، أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأكيد استعداد بلاده للتفاوض مع أوكرانيا “دون شروط مسبقة”، بحسب ما أعلنه المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بعد لقاء جمع بوتين بالمبعوث الأميركي الخاص ستيفن ويتكوف. إلا أنّ هذا التصريح لا يتماشى بالكامل مع الطرح الروسي الذي اشترط، في سياق آخر، الاعتراف بالقرم والأقاليم الأربعة كأراض روسية للدخول في مفاوضات رسمية.
هذا التناقض بين الموقف الرسمي والتصريحات السياسية يعكس تعقيد المفاوضات وتعدد الروايات حول النوايا الحقيقية للأطراف. فبينما تؤكد موسكو استعدادها للحوار، فإنها تضع في المقابل عقبات تصعب القبول بها من قبل كييف وحلفائها الغربيين.
زيلينسكي في موقع حرج
بالنظر إلى الضغوط الداخلية والخارجية، يجد الرئيس زيلينسكي نفسه محاصرًا بين رفض التنازل عن أي جزء من الأراضي الأوكرانية وبين الضغوط الدولية، خصوصاً من قبل ترامب، للدخول في تسوية قد تفرض خسائر جغرافية. ويبدو أن زيلينسكي يسعى في الوقت الراهن للحفاظ على الموقف الوطني المتماسك، رغم أن تلميحات ترامب قد تشي بتحولات محتملة في سياسة الولايات المتحدة.
بين هدنة موسمية وسلام دائم
ما زالت أوكرانيا في وضع صعب، سياسيًا وعسكريًا، بعد أكثر من ثلاث سنوات على بدء الحرب التي دمّرت بنيتها التحتية، وأثقلت كاهلها اقتصاديًا وإنسانيًا. وفي وقت تسعى فيه كييف للحفاظ على دعم الغرب، تواجه معارضة غير معلنة من بعض العواصم الأوروبية التي تفضّل إنهاء النزاع بسرعة، ولو على حساب وحدة الأراضي الأوكرانية.
من جانب آخر، تبدو روسيا مستعدة لعقد صفقة تنهي الحرب، لكنها تشترط اعترافًا دوليًا بإنجازاتها الميدانية. أما واشنطن، وبخاصة في ظل إدارة ترامب، فتسعى لإغلاق هذا الملف بأسرع وقت، ولو عبر ضغوط مباشرة على كييف لتقديم تنازلات.
في ضوء هذه التطورات، تبدو المفاوضات الروسية الأوكرانية وكأنها حلبة صراع سياسي بين أطراف متعددة، لكل منها أجندته وأولوياته. وبينما تتحدث موسكو عن رغبتها بالسلام المشروط، تتمسك كييف برفض أي تنازل يشرعن الاحتلال. وبين الطرفين، تسعى واشنطن إلى فرض “صفقة واقعية” قبل نهاية العام، دون أن تخسر دورها القيادي أو مصالحها الاستراتيجية في أوروبا الشرقية.
أما السؤال الحقيقي فهو: هل تكون الهدنة الروسية بداية مسار تفاوضي حقيقي، أم مجرّد تكتيك عسكري في معركة لم تقل كلمتها الأخيرة بعد؟
مواضيع ذات صلة :
![]() “أسبوع مفصلي”… الجهود الأميركية تتواصل لتحقيق السلام في أوكرانيا وتواجه شروطًا روسيةً جديدة | ![]() ترامب يقود مبادرة سلام بين روسيا وأوكرانيا… ما هي آخر التطورات؟ | ![]() بوتين يعلن الهدنة… وزيلينسكي يوافق |