بين حقائب الأدوية وجموع اليائسين.. مغترب يصف رحلته في لبنان!
قبل أيامٍ قليلةٍ من سفري إلى لبنان الشهر الماضي، نُصحت بأن أحضّر نفسي مسبقاً لأنّ الواقع على الأرض سيكون أسوأ مما قيل لي أو قرأت عنه.
بصفتي عاملاً في مجال الإغاثة والمدير التنفيذي لمنظمة إنسانية، أمضيت العقدين الماضيين في أكثر الأماكن اضطرابًا وتدميرًا في العالم، وكنت أعتقد أنني قد رأيت ما هو أسوأ مما يجري في لبنان.
لبنان اليوم مجرد ظلّ لما كان عليه في السابق، وعلى الرغم من ذلك كانت لدي رغبة في زيارة بلدي الأم مرة جديدة.
زيارتي الأخيرة إلى لبنان كانت في آب 2020، بعد انفجار مرفأ بيروت، في حينها كانت المدينة لا تزال في حالٍ من الصدمة، والحطام والزجاج يتناثر في كل مكان، أما عدد الضحايا فكان لا يزال إلى ارتفاع.
التحليق فوق لبنان كان غير اعتيادي هذه المرة. فمن مقعدي الذي صودف أنّه إلى جانب النافذة، حدقت إلى الجبال وإلى غابات الأرز وشردت في السهل الساحلي وصولاً إلى بيروت.
جمال لبنان من السماء، أسر مخيلتي، هو حقاً بلد عظيم!
ما إن خرجت من الطائرة ودخلت إلى مطار بيروت حتى بدأت أستوعب الحقيقة، عدد الوافدين قليل جداً، لا حشد في المطار، ومعظم الزائرين هم من المغتربين الذين عادوا إلى الديار لبضعة أيام للاطمئنان على عائلاتهم.
أيّ من المسافرين، لم يأتِ “خفيفاً”، فكل واحد منهم على الأقل معه حقيبتين، واحدة منهما مليئة بالأدوية، عادة كانت هذه الحقائب تكون مزدحمة بالهدايا للأهل والأصدقاء.
اليوم، اختلف المشهد، فكل ما أرادوه هو بعض الأدوية التي يمكننا حملها.
وصلت إلى بيروت يوم الجمعة، عند الساعة الرابعة والنصف عصراً، ومن يعرف لبنان يعلم أنّ حركة المرور تكون مزدحمة جداً في هذا الوقت، وخاصة يوم الجمعة حيث يغادر الناس بيروت باتجاه الجبل أو المدن الساحلية.
ما إن وصلت إلى الطريق العام، حتى لاحظت أنّ حركة المرور خفيفة جداً، فيما الازدحام كان أمام محطات الوقود، فأزمة المحروقات أدّت إلى شلل كامل في البلاد.
وصلت إلى المنزل، حيث والدتي وحيث سأبقى، إذ كنت أريد من هذه الزيارة الالتقاء بالأقارب.
كان الترحيب هذه المرة وجيزاً جداً، بسبب الأسى والحزن وحتى الغضب جراء الأوضاع. كثيرون أبدوا رغبتهم بمغادرة لبنان، كل من لديه شهادة أو فرصة يرغب بالرحيل، أشخاص كثر تحدثوا أمامي عن انعدام الأمل لديهم.
ومع أنّ وصولي إلى لبنان تزامن مع تشكيل الحكومة، غير أنّ الجميع هنا يسخر من قدرتها على الإصلاح، فالحكومات بالنسبة إليهم تأتي وتذهب، أما النتيجة فهي نفسها دائماً: اقتصاد معطل، تضخم مفرط، انقطاع في التيار الكهربائي يستمر معظم اليوم، نقص حاد في المياه والوقود والأدوية.. والأسوأ من ذلك، أنّ اللبنانيين اليوم بالكاد يستطيعون شراء الطعام.
ساعدت حقيبتي المليئة بالأدوية على تهدئة الغضب الذي يعاني منه من حولي.
ومع ذلك، احتاجت والدتي المسنّة إلى أدوية مختلفة، فتطوّعت بالذهاب إلى الصيدلية، فأنا ببساطة كان لدي وقود في سيارتي المستأجرة. زرت سبع صيدليات قبل أن أجد صيدلية لديها أدوية، علماً أنّ الكمية وفق الصيدلي لا تكفيهم أكثر من أسبوع.
اعتذر الصيادلة الواحد تلو الآخر، وأغلق العديد منهم أبوابه، فيما لجأ البعض الآخر إلى تلبية الزبائن من وراء نافذة زجاجية لحماية أنفسهم من نوبات الغضب.
الناس هنا يشعرون بالغضب الشديد، هو الغضب المترافق مع اليأس بسبب عدم توفّر الدواء لأسرهم.
اليأس ينتشر حقاً في هذه المدينة، لبنان تحوّل إلى أرض ناقصة. لا يسعني إلا أن أتساءل ماذا يحدث لأولئك الذين ليس لديهم ما يكفي من الوقود في سياراتهم للذهاب إلى الصيدليات؟ ماذا يحدث لمن لديه المال لشراء الأدوية ولكن لا يمكنه إيجاد الأدوية؟
بينما ينتظر البعض العون، لجأ آخرون إلى المنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات الرعاية الطبية والصحية، علماً أنّ هذه الخدمات كانت مخصصة حصراً للاجئين الذين يعيشون في لبنان ، ولكن منذ انفجار ميناء بيروت وانهيار الاقتصاد ونظام الرعاية الصحية، بدأت العديد من المنظمات بتقديم الرعاية والأدوية للعديد من اللبنانيين المحتاجين.
الرحلة إلى لبنان كانت فرصة أيضاً للقاء مختلف الشركات والمنظمات المجتمعية، وكان لدى الجميع احتياجات متشابهة: الأدوية، الإمدادات الطبية، حليب الأطفال، مستلزمات النظافة الشخصية، اللوازم التعليمية وما إلى ذلك…
أمر آخر مقلق نصادفه في لبنان، وهو هجرة العقول، إذ غادر العديد من المهنيين الذين يقدمون الخدمات الأساسية كالأطباء والممرضات والمهندسين، وكذلك الأكاديميين ورجال الأعمال.
وتسببت هذه الهجرة بتدهور كبير في الخدمات الأساسية مثل توفير الرعاية الصحية.
ما الحل؟
على المدى القصير، يحتاج لبنان إلى وقف الانهيار الاقتصادي، وعلى المجتمع الدولي تقديم المزيد من المساعدات الإنسانية، إذ يعيش أكثر من 70 بالمئة من اللبنانيين الآن تحت خط الفقر.
أما على المدى الطويل، فالرهان على البدء بإصلاحات جدية لإحياء البلاد من جديد.
لبنان عند نقطة تحول اليوم، وإن لم يتحرك المجتمع الدولي والحكومة اللبنانية بسرعة لإنقاذه وشعبه، فقد يضيع لبنان الذي عرفناه جميعًا وأحببناه إلى الأبد.بين حقائب الأدوية وجموع اليائسين.. مغترب يروي رحلته في لبنان!
مواضيع ذات صلة :
“توجت في العام 2017”.. وفاة ملكة جمال لبنان للاغتراب | نديم الجميّل: صمدنا في هذه المرحلة بفضل اللبنانيين المنتشرين | دولار واحد في اليوم يوقف النزيف… لبنان على موعد مع الاغتراب |